مأساة «إبراهيم» بين كليات القمة.. الطريق من الثانوية لسوق العمل

هذه القصة يعرفها كثيرون من دائرة الأصدقاء والمعارف، لزميل راحل كان يسبقنا بسنوات فى الثانوية العامة وكان متفوقا فى العلوم والرياضيات، لكنه أكثر حبا وميلا للرياضيات، وعندما نجح بتفوق فى الثانوية العامة، وكان هذا قبل شعبتى العلوم والرياضة، وبالطبع اختار أن يدخل كلية الهندسة عشقه، وللمفارقة، وقتها كانت «الطب» هى التى تعتبر كلية القمة، ولهذا أصر والده على أن يدخل كلية الطب، قاوم الطالب المتفوق كثيرا وأخبر والده بأنه يرى نفسه فى الهندسة، لكن الأب تمسك برأيه، وأنه لا قمة إلا «الطب»، وانصاع إبراهيم لرغبة أو تجكم الأب كأى ابن مطيع لا يريد إغضاب والده، الذى قال له: إنه يريد أن يراه طبيبا.
دخل إبراهيم كلية الطب وأنهى السنة التمهيدية الإعدادية فى كلية العلوم، وانتقل للسنة الأولى، ثم تعثر وتكررت مرات رسوبه فى الطب الذى لم يجد نفسه فيه، وتجمدت حياته عند العام الثانى لكلية الطب، حتى تم فصله، ودرس بعدها القانون، وظل حلم دراسة الهندسة يسكنه، حتى رحل وهو يحمل غصة من كونه بدأ كطالب فاشل، بينما هو متفوق طوال عمره، رحل الأب ولم يتحقق حلمه، وإن تحقق جزئيا فى شقيق الزميل الراحل، الذى كان يحب الطب وتفوق فيه بينما بقى الشقيق الأكبر محبطا.
قصة هذا الشاب تكررت مرات كثيرة، الابن المتفوق يريد دراسة الفنون التطبيقية أو الفنون أو الديكور أو يجيد الرسم أو حتى الغناء، لكنه يصطدم برغبة الأب أو الأم أو الأسرة، الذين يرفضون اختياره ويدفعونه دفعا إلى ما يريدونه، وليس ما يريده الابن أو الابنة، فيذهب الابن المتفوق فى «سكة اللى يروح ولا يرجع»، لا هو حقق حلمه ولا رغبة أهله، فينضم إلى الشلل، وفى حالة نجاحه فهو يفعل ذلك بلا رغبة ولا هواية، وبالتالى يفقد طريق مستقبله.
قصة إبراهيم تتكرر مع كل امتحانات الثانوية العامة، وكثير من متفوقى الثانوية ليس لديهم الرغبة أو القدرة على الالتحاق بما يسمى كليات القمة، فبعضهم أصحاب هوايات ورغبات أخرى، طبعا هناك طلاب يستسلمون لحكم مكتب التنسيق، فيذهبون إلى حيث تذهب بهم درجاتهم «ولا تفرق معاهم»، ويسيرون فى الحياة بهذا التوجه من دون أى تدخل أو مقاومة، ويتخرجون فيعملون فى تخصصهم أو غير تخصصهم، حسبما تفرض عليهم الظروف والحياة.
كل بيت فى مصر يعيش معارك الثانوية العامة أكثر من مرة، الاختيار بين العلمى والأدبى، العلوم والرياضة، والدروس الخصوصية، ثم تأتى معركة الامتحانات، وتتبعها معركة النتائج والمجاميع والاختيارات، الآن تتيح الجامعات الخاصة فرصا أكثر من الماضى، وفى بعض الأحيان يجد الطلاب من غير ذوى المجاميع الكبيرة فرصا فى الجامعات الخاصة أو الأهلية قد لا تتاح لمن هم أعلى فى الدرجات.
فى الماضى، كان مكتب التنسيق يتيح نظريا نوعا من العدالة والقبول أمام الجميع على أساس المجموع، وتتحدد كليات القمة والقاع من دون دراسة، ومع الوقت تغيرت خرائط الفرص، وأصبحت هناك تخصصات لا يحتاجها سوق العمل، ويتكدس خريجوها أو يضطرون لتغيير مسارات حياتهم بتدريب ودراسة أخرى تساعدهم على اصطياد فرصة عمل.
هناك مئات الآلاف من الجامعيين المتعلمين يدخلون سوق العمل سنويا، ويدخل بدلا منهم مئات الآلاف من طلاب الثانوية العامة، كل منهم يراهن على أن يجد فرصة عمل تضمن له مستوى اجتماعيا مناسيا، لكن المفارقة أن التخصص لم يعد وحده الضامن، وإنما يتعلق الأمر بالمهارات والقدرة على التكيف مع سوق العمل بجرأة الاتجاه إلى العمل الخاص أو اختيار نموذج عمل أو «بيزنيس موديل»، أملا فى أن يتطور، وفى النهاية قد يجد الشاب نفسه بعيدا عن تخصصه.
بعض الشباب يسعى لاكتساب مهارات من خلال كورسات أو تدريبات تضاعف من فرص العمل، وفى حالات كثيرة يجد الشاب نفسه فى عمل لا يرتبط بنوعية دراسته، وفى الواقع كما كتبت على مدى سنوات، لا توجد وصفة جاهزة فى حالة اتباعها يحصل الشاب على عمل جيد بعد التخرج، وهذه المعادلة شغلت، ولا تزال، خبراء الموارد البشرية والتعليم، سواء فى المراحل الأولى أو ما بعد الجامعة، فكيف تتضاعف فرص التوظيف للخريجين، وخلال السنوات الأخيرة، ظهرت جامعات تمزج فى مناهجها بين العملى والنظرى اعتمادا على أن الجانب العملى يضاعف من فرص التوظيف.
وفى السنوات الأخيرة، ظهرت تخصصات مطلوبة فى سوق العمل ترتبط بالاتصالات أو التقنيات الحديثة، أو العلاج الطبيعى والتمريض والذكاء الاصطناعى، تغير من مفهوم القمة والقاع، ومع هذا هناك خريجون للطب والهندسة والاتصالات والتسويق والحاسبات يتجهون إلى مسارات عمل لا علاقة لها بالكلية التى درسوا وتخرجوا فيها، بينما بعض الخريجين من كليات نظرية ينتقلون بعد اجتيازهم الكورسات إلى وظائف فى الاتصالات والحاسبات أو التجارة أو التسويق الإلكترونى، هناك تحولات كثيرة غيرت من شكل سوق العمل، لوجود بعض الشباب القادرين على السعى للعمل، فنراهم صابرين على التقدم للكثير من إعلانات الشركات الخاصة، بينما يفضل البعض الآخر الطريق الأسهل أو يضطر لقبول عمل يوفر له دخلا عاجلا، وفى كل الأحوال لم يعد العمل مرتبطا بالتخصص، وإنما بعناصر متنوعة فرضتها تحولات كبيرة فى كل مجال.


Trending Plus