براءة "الأوركا" من دم جيسيكا.. الإعلام في عصر صناعة الأكاذيب

جيسيكا مدربة الأوركا.. فتاة أدمعت عيون الملايين، عندما انقلب عليها صديقها المائي، ليفترسها بين فكيه، دون رحمة، لتنال تعاطفا واسع النطاق، بينما لم يفكر الغالبية العظمى من الناس ما إذا كان الأمر حقيقي، فالجدال ربما غير مقبول، فلم يكن مجرد خبر منشور بصحيفة، أو موقع، أو رواية كتبها أحد رواد مواقع التواصل الاجتماعي، وإنما في واقع الأمر كان المشهد مرئيا مصورا، بما لا يدع مجالا للشك في مصداقيته، لتتناقله بعض المواقع والبرامج بأريحية شديدة، دون حاجة إلى مصدر، فالفيديو المنتشر كالنار في الهشيم يبقى مصدرا كافيا ووافيا كدليل على صحة الواقعة.
هكذا لخصت جيسيكا، تلك الشخصية التي لم تتواجد سوى في خيال صانعها، وحوتها المزعوم، أزمة الإعلام، في لحظة وصلت فيها التكنلوجيا إلى ذروة التقدم، مع بزوغ أدوات الذكاء الاصطناعي، التي بات بإمكانها إنتاج صور وفيديوهات، لا يمكن التشكيك في صحتها، بينما هي في واقع الأمر مجرد خيال، وهو ما يطرح تساؤلات عدة حول مستقبل الإعلام ومصداقيته، ودرجة الوثوق فيما ينشر، في الوقت الذي يعود فيه، إلى الواجهة، الحديث عن طبيعة العمل الإعلامي نفسه، وما إذا كان رسالة من شأنها توضيح الحقائق للمتلقي، وفتح مساحة للحوار، أم أنه تحول إلى صناعة، وهو سؤال قديم، يتم صياغته بطرق مستحدثة، مع التطورات التي يشهدها السوق، حيث يرجع في جوهره إلى ما قبل عصر الانترنت، مع ظهور ما يسمى بـ"الصحافة الصفراء"، والتي كانت تعتمد على العناوين الساخنة، والصور الجريئة، على صدر صفحاتها حتى تجد "الزبون" المناسب لها، بينما ازداد الأمر رواجا مع بزوغ المواقع الالكترونية، واحتداد المنافسة بين أصحابها، وتفاقمت مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، لنصبح الآن أمام مرحلة جديدة، تتجلى في أدوات الذكاء الاصطناعي.
في الواقع، تبدو الأوركا، رغم وحشيتها، بريئة من قضية التهام جيسيكا، بينما التهم الإعلام الحقيقة، عبر الترويج لأكذوبة، لا أساس لها، رغم كونها "غير مؤثرة" فهي ثمرة خيال أحد المستخدمين لأدوات الذكاء الاصطناعي، فأراد تعميمها، إلا أن المشهد في ذاته يثير الشكوك في كل ما يقدم، حتى وإن كان موثقا بلقطات متحركة، أو مقرونا بأصوات، وهو ما يمكن أن يتسبب في كوارث كبرى، خاصة في أزمنة الأزمات، ومع عودة الصراعات مجددا، وتمددها الجغرافي، فأصبح الخيال متاحا في صورة خدمة يمكن مشاهدتها بالعين المجردة، وهو ما يفتح الباب أمام تزوير الحقائق، وخلق الذرائع، لفرض أمور بعينها بالقوة، على أطراف أخرى، وهنا تتحول الأزمة من مجرد الشكوك التي تلاحق مصداقية الإعلام، إلى عوار قد يصيب دائرة صناعة القرار، والتي تعتمد في جزء كبير منها على المتاح من معلومات، وفي القلب منها ما ينشر إعلاميا، فماذا لو كان المنشور موثق بفيديو يحاكي الواقع بنسبة تقترب من الـ100%؟
مشهد جيسيكا وحوتها المزيف، ليس فريدا من نوعه، فلو نظرنا إلى الأزمات الراهنة، وفي القلب منها الصراعات الدولية، نجد أن ثمة مشاهد مشابهة، منها على سبيل المثال ما تم الترويج إليه، من قبل أحد أكبر منصات الإعلام في العالم، في بداية أزمة غزة، حول قطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين خلال أحداث السابع من أكتوبر، وهو ما ثبت زيفه فيما بعد، ولكن بعدما نالت إسرائيل شرعية لبعض الوقت سمحت لها بارتكاب انتهاكات حقيقية، وليست مصنوعة عبر أدوات تقنية، بحق ملايين الأطفال في القطاع، تحت ذريعة الدفاع عن النفس.
المعضلة الحقيقية ليست في خيال مؤلف قصة "جيسيكا والأوركا"، وإنما في توظيف نفس الأدوات التي استخدمها لتضليل الرأي العام العالمي، لتحقيق مآربه، بينما يبقى الجزء الأكبر من المسؤولية في ملاحقة ما يتم بثه، من قبل المنصات الإعلامية للنشر السريع، لتحقيق "سبق" قد يكون ثمنه دماء آلاف الأبرياء.
التزامن بين قصة جيسيكا، والأزمات التي يشهدها العالم، في لحظة فارقة، تتزايد فيها الأطماع، وتتفاقم فيها المساعي لتصدير الفوضى، وهو الأمر الذي يفرض قيودا ذاتية على العاملين في الحقل الإعلامي، ترتبط بأخلاقيات المهنة، تتطلب التحقق من المواد المطروحة، حتى وإن كانت منتشرة بصورة واسعة، وهو ما يمثل في ذاته "شعرة معاوية" بين الإعلام كـ"صناعة" تسعى إلى التريند كسبيل وحيد لتحقيق المكاسب، وبين احتفاظه بدوره كرسالة، تتمركز حول نقل الحقائق للمتلقي.
وهنا تبدو أهمية مفهوم "الإعلام الوطني"، في كل دولة، باعتباره مسؤولا عن تشكيل الوعي، وتقديم الحقائق وبالتالي مواكبة التحديات، ليس فقط في مواجهة الأكاذيب والمواد المصنوعة بمهارة عبر أدوات الذكاء الاصطناعي، وإنما أيضًا في تقديم المعلومة الدقيقة في الوقت المناسب، مستندًا إلى بيانات موثقة، ومنظومة مهنية متطورة، تستطيع سد الفجوة بين الواقع وما يُروّج له على المنصات، حيث مواجهة هذا الواقع المعقد تتطلب إعادة صياغة منظومة العمل الإعلامي، بما يدمج بين التكنولوجيا الحديثة والكوادر المؤهلة، ويعزز من مفاهيم الأمن القومي، والانفتاح على الآراء، لضمان أن يظل الإعلام أداة لتوضيح الحقائق وصناعة الوعي، لا مجرد مطاردة التريند
فالإعلام، حين يمتلك البنية القادرة على الاستجابة للأزمات، ويتحرك وفق رؤية شاملة، يصبح خط الدفاع الأول عن استقرار المجتمع وصورة الدولة في الداخل والخارج، وهو ما ينسجم مع المسار الذي تتبناه مصر لبناء إعلام حديث، متماسك، ومرتبط بمقتضيات جمهوريتها الجديدة، وهو ما بدا واضحا في رؤية الدولة المصرية، فيما يتعلق بالحاجة إلى خارطة طريق شاملة، دعا إليها الرئيس عبد الفتاح السيسي مؤخرا، في إطار إدراك عام بأهمية تطوير المنظومة في لحظة فارقة، زاخرة بالتحديات، سواء على المستوى الميداني أو الدولي، أو حتى في إطار تكنولوجيا باتت تتجاوز الدور الذي خلقت من أجله لخدمة الإنسانية، عبر التحول نحو تضليلها لخدمة جهات وفئات ودول أشخاص بعينهم.
وهنا يمكننا القول بأن الإعلام يبقى رسالة، وإن كنا لا نستطيع أن نتجاوز حقيقة كونه صناعة تسعى بكل تأكيد كغيرها إلى تحقيق الربح، وهو حق مشروع، ولكن ليس بالتضليل أو نشر الأكاذيب، وإنما من خلال تعزيز المصداقية، عبر أدوات من شأنها التحقق من صحة ما يصل من مواد، بينما يبقى الصحفي نفسه منوطا بالرقابة على نفسه، عبر التأكد من صحة ما يصل إليه، حتى وإن كان مدعوما بمواد مصورة.

Trending Plus