سعيد الشحات يكتب: ذات يوم.. 13 أغسطس 1969.. فنان الكاريكاتير ناجى العلى يقدم شخصية «حنظلة» فى بيان نشرته «السياسة» الكويتية ويعلن أنه ولد فى 5 يونيو 1967 وظهره ليس للقارئ وإنما وجهه لفلسطين

ابتدع فنان الكاركاتير الفلسطينى العبقرى، ناجى العلى، شخصية «حنظلة» فى رسوماته فتحققت نبوءته: «هذا المخلوق الذى ابتدعته لن ينتهى من بعدى بالتأكيد، وربما لا أبالغ إذا قلت إننى قد أستمر به بعد موتى»، وبالفعل لم ينته «حنظلة»، وبه يستمر مبدعه ناجى حيا فى تاريخ الإبداع العربى، رغم وفاته يوم 29 أغسطس 1987، متأثرا برصاص غادر أطلقه عليه مجهول فى لندن.
يعيش «حنظلة» لأنه تاريخ الجرح الفلسطينى، والشاهد على مأساة فلسطين تحت جحافل الاحتلال الصهيونى، والشاهد على مأساة واقعنا العربى، ولأنه أصبح أيقونة فن الكاريكاتير العربى، يأتى السؤال: من يكون حنظلة؟ ومتى ابتدعه ناجى العلى؟.. يكشف «ناجى» السر، وذلك عبر بيان نشره فى جريدة السياسة الكويتية يوم 13 أغسطس «مثل هذا اليوم 1969»، وكان ينشر فيها رسوماته وقتئذ، ويحمل «البيان» توقيع «حنظلة» بما يعنى أنه يتحدث عن نفسه، كما يحاور ناجى، وبين ضميرى المتكلم والمخاطب وبلهجة فلسطينية تتكشف الأسرار:
«اسمح لى أن أقدم لك نفسى..أنا أعوذ بالله من كلمة أنا.. اسمى حنظلة، اسم أبى مش ضرورى، أمى اسمها نكبة، وأختى الصغيرة فاطمة، نمرة رجلى ما بعرف لأنى دائما حافى، ولدت فى 5 حزيران «يونيو» 1967، جنسيتى، أنا مش فلسطينى، مش أردنى، مش كويتى، مش لبنانى، مش مصرى، مش حدا.. إلخ، باختصار معييش هوية ولا ناوى أتجنس، محسوبك عربى وبس، التقيت صدفة بالرسام ناجى، كاره شغله لأنه مش عارف يرسم، وشرح لى الأسباب، وكيف كل ما رسم عن بلد، السفارة بتحتج، والإرشاد والأنباء بتنذر، بيرسم عن علتين شرحه، قللى الناس كلها أودام، صاروا ملايكة، والأمور مفيش أحسن هيك، وبها لحاله عن شو بدى أرسم، بدى أعيش وناوى بشوف شغلة غير هالشغلة، قلت له: انت شخص جبان وبتهرب من المعركة، وقسيت عليه بالكلام، وبعد ما طيبت خاطره، وعرفته عن نفسى وأنى إنسان عربى واعى، يعرف كل اللغات، ويحكى كل اللهجات، معاشر كل الناس المليح والعاطل، والآدمى والأزعر، وبتاع البتاع.. اللى بيشتغلوا مربوط واللى هيك هيك، وروحت الأغوار، وبعرف مين بيقاتل ومين بيطلع بلاغات بس، وقلت إنى مستعد أرسم عنه الكاريكاتير كل يوم، وفهمته أنى ما بخاف من حدا غير من الله، واللى بدو يزعل يروح يبلط البحر، وقلت له عن اللى بيفكروا بالكنديشن والسيارات، وشو بيطبخوا أكثر مما يفكروا بفلسطين..ويا عزيز القارئ: أنا آسف لأنى طولت عليك، وما تظن أنى تعمدت هالشىء عشان أعبى هالمساحة، وأنى بالأصالة عن نفسى وبالنيابة عن صديقى الرسام أشكرك على طول، وبس..وإلى اللقاء غدا».
هكذا أعلن «حنظلة» عن نفسه حسب صيغة البيان، ويكشف ناجى العلى أسباب ابتكاره هذه الشخصية، حسبما يذكر «شاكر النابلسى» فى كتابه «أكلة الذئب- السيرة الفنية للرسام ناجى العلى»، قائلا: «سأله حسين منصور المراسل الصحافى المصرى لمجلة «الكفاح العربى» فى الكويت: إيه اللى خلاك يا ناجى تبتكر الشخصية العجيبة دى؟ فرد: فى الكويت وفى الخليج كله بدأت ظاهرة توفر كل إشى فى السوق وهجمت الناس زى المفاجيع، والاستهلاك الفظيع وصل قمته بعد 1975، وانجرفت ناس كتيرة، وانفتحت دكاكين لا أول لها ولا آخر، وبصراحة يا حسين أنا خفت على نفسى من هالموجة أو من هالهوجة مثل ما بتحكوا بمصر، وها الاغراءات الفظيعة، إيش ثلاجات، وإيش سيارات، وإيش مكيفات، وإيش عفش وأثاث وملابس، وإيش أكل، لحوم وأسماك، إشى عمرنا يا زلمة ما شفناه ولا بالمنام، وخفت على حالى بينى وبينك، خاصة أنى تزوجت وأجانا ولد، وبدأ البيت يأخذ حجم العائلة، فقلت أحسن إشى يا ولد يا ناجى تعملك إشى يذكرك دائما بأصلك وفصلك وعشيرتك وبلدك بفلسطين وقرية «الشجرة» ومخيم «عين الحلوة»، فرحت ابتكرت هالشخصية الحرس».
يسأله «منصور» مستفسرا متعجبا: «يعنى الواد ده الحرس اللى هايحشوك عن ده كله؟ فيجيب: «هذا هو الضمير اللى يلسعنى لو شردت، وهذا هو اللى هيحاسبنى آخر الليل لو قبضت، وهذا هو المر اللى راح أشربه كل يوم الصبح لو أخلفت، وهذه هى الأصابع اللى هاتشد أذنى لو تنازلت».
ويسأله عن سبب اختياره اسم «حنظلة»، فيجيب: «عشان يكون رمز المقاومة المرة والمعارضة الصبرة اللى ما بتهادن»، ثم يسأله: «اشمعنى عيل بالهيئة دى يعنى؟ يجيب: «هذا أنا وأنا صغير، طول نهارى كنت حافى وشورتى مرقع وقميص مبقع، وشعرى منكوش زى القنفد، اللى كل ما يحصروه يلاقى له منفذ، والذبان معشش بعيونى، وحالى حالة»، يسأله منصور: «هايكبر بكره ولا هيفضل صغير كده؟ يجيب: «أبوالحناظل ولد عمره عشر سنين، وأسطورة ومش راح يكبر إلا بعد ما تعود البلاد لأهلها، لأنه واقف بيناضل ضد نواميس الطبيعة العربية والغربية وقوانينها».
يسأله «منصور» عن سبب أنه يقف وظهره للقارئ، فجيب «ناجى»: «هو مش داير ظهره للقارئ، هو إجه ووقف، ووجهه لفلسطين قدامه، مش إلنا، القارئ هو اللى إجه ووقف وراه مش قدامه، والقارئ وقف وراه لأنه متخلف، متخلف فى كل أشى، عن التعليم وعن العلم وعن الفهم وعن الوعى وعن التاريخ وعن التصميم وعن الثأر وعن المواجهة وعن التضحية وعن كل إشى، ويوم القارئ ما يكمل هذا كله هاييجى ويقف قدام حنظلة ويشوف وجهه».

Trending Plus