سقوط السردية.. يا غولة "عينك حمرا".. وجه إسرائيل القبيح يظهر للعالم على أكوام الركام والأشلاء فى غزة وانهيار فزاعة "معاداة السامية".. مشاركة اليهود والناجين من الهولوكوست فى الاحتجاجات ضد الإبادة تكسر التابوهات

فى 14 مايو 1948، تم الإعلان عن إقامة دولة إسرائيل، ومنذ ذلك الحين لا يتوقف هذا الكيان عن ارتكاب الجرائم ولو ليوم، وليست مبالغة إن قلت لساعات فقط، ورغم تلك الفظائع، حافظ على صورته إلى حد كبير أمام الغرب، باعتباره واحة الديمقراطية الوحيدة فى الشرق الأوسط المأزوم، لكن منذ السابع من أكتوبر عام 2023 انكسرت تابوهات ومحظورات، وسقطت سرديات إسرائيلية كان الاقتراب منها كالسير فى حقل ألغام.. فكيف حدث ذلك؟
لسنوات طويلة، اعتاد المسؤولون الإسرائيليون الكذب كما يتنافسون، وسرد روايتهم فى وسائل الإعلام الدولية بدون تدقيق لما يقولونه فى أغلب الأحيان، إلا أن الوضع تغير كثيرًا، والدليل ما حدث بعد السابع من أكتوبر، حيث تلقى المجتمع الإسرائيلى صدمة، والبداية مع جملة «القصة لم تبدأ فى السابع من أكتوبر»، بعدما سعت إسرائيل لترويج رواياتها عن هذا اليوم، وتلفيق الأكاذيب عما حدث فى المستوطنات من قبل أفراد المقاومة وتأليف قصص رعب لم تحدث، أشهرها بالتأكيد قطع رؤوس أطفال إسرائيليين وحرق جثثهم، كما زعم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو فى لقاءاته مع الرئيس الأمريكى السابق جو بايدن، ووزير خارجيته أنتونى بلينكن.
تفنيد أكاذيب غير معتاد!
المثير أن دحض رواية مثل قطع رؤوس 40 طفلًا جاء بسرعة لم يتخيلها المسؤولون الإسرائيليون، بعد مبادرة وسائل إعلام مستقلة ونشطاء عبر منصات التواصل من مختلف دول العالم، حتى صحيفة «هاآرتس» العبرية فندت فى وقت لاحق ما روّجته تل أبيب من أكاذيب عن هذا اليوم، لتبرير حربها الوحشية على القطاع.
نجد على سبيل المثال، لا الحصر، فى الذكرى الأولى للسابع من أكتوبر، فيلمًا وثائقيًا يبثه الصحفى الأمريكى ماكس بلومنثال تحت اسم «الدعاية الفظيعة»، يكشف فيه زيف الدعاية الإسرائيلية- الأمريكية، وكيف روّج مسؤولون وسياسيون إسرائيليون وأمريكيون وقائع مزعومة لتبرير العمليات العسكرية فى غزة، إضافة إلى ذلك تقديم أدلة وبراهين على تطبيق قوات الاحتلال «بروتوكول هانيبال»، الذى يسمح باستخدام القوة القاتلة لمنع أسر الرهائن، مما تسبب فى قتل إسرائيليين بنيران إسرائيلية.
المفارقة أنك إذا تصفحت حساب الصحفى الأمريكى ماكس بلومنثال عبر منصة «إكس»، والتعليقات المنشورة على عمله الاستقصائى، ستجد البعض، ممن ليست لهم دراية بخلفيته الدينية والثقافية، يتهمه بـ«معاداة السامية»، رغم أنه يهودى الديانة، لذا يذهب البعض من الصهاينة إلى اتهام آخر وهو «اليهودى الكاره لذاته»، وهذا يستخدم لوصف اليهودى الذى يُبدى مواقف أو آراء تُعتبر مناهضة للمصالح الإسرائيلية، وللعلم، هذا المصطلح يعود إلى القرن العشرين لوصف يهود تأثروا بمعاداة السامية فى أوروبا فتبنوا آراء سلبية عن هويتهم.
اتهامات معلبة!
فى وقت سابق، كانت الاتهامات المعلبة مثل «معاداة السامية» أو «اليهودى الكاره لذاته» أو «تأييد فلسطين» كفيلة بإنهاء مسيرة أى صحفى أو إعلامى، وهنا نشير إلى ما حدث للصحفية الأمريكية الشابة، إميلى وايلدر، بعدما خسرت وظيفتها فى وكالة «أسوشيتد برس» فى مايو 2021، فقد التحقت بالعمل فى يوم 3 من الشهر، ثم تمت إقالتها بعد 16 يومًا بسبب دعمها القضية الفلسطينية و«نشاطها المؤيد للفلسطينيين»، حسب ما نشرته صحيفة «الجارديان» البريطانية.
«أسوشيتد برس» بررت قرارها آنذاك بإقدام وايلدر، وهى يهودية الديانة، على «انتهاك سياسات وسائل التواصل الاجتماعى» التى تقرها الوكالة على العاملين بها، إلا أن الحقيقة التى عبر عنها قطاع واسع من الصحفيين فى أوروبا وأمريكا، أن «وايلدر» قد استهدفت من قبل وسائل الإعلام اليمينية داخل الولايات المتحدة.
الآن، يبدو جليًا أن قواعد اللعبة تغيرت، ولم تعد الأصوات اليمينية أو الصهيونية تملك كل الهيمنة على الصورة الذهنية لإسرائيل فى الغرب، بعدما تم كسر جدار الصمت فى بلاد لم يكن مسموحًا فى وقت سابق بأى مساحة فى تلك المنطقة الشائكة، وهنا يمكن ذكر ألمانيا على سبيل المثال، ويُنسب الفضل فى ذلك إلى منصات التواصل الاجتماعى ونقل الصورة كاملة، وعدم الارتكان إلى ما تقدمه وسائل الإعلام التقليدية كما كان فى الماضى.
الصورة كاملة!
وصول الصورة كاملة جعل الحكومات غير قادرة على مواجهة الضغوط الشعبية، فلم يعد هناك أكاذيب أخرى يمكن بيعها لدافعى الضرائب فى تلك البلدان ممن يدعمون إسرائيل عسكريًا، لذا يمكنك التوقف كثيرًا عندما تقرأ خبرًا عن تعليق ألمانيا واردات الأسلحة التى يمكن أن يستخدمها الجيش الإسرائيلى فى قطاع غزة حتى إشعار آخر، مما يعنى أن الحكومة الإسرائيلية تواجه عاصفة من الانتقادات الأوروبية غير مسبوقة حتى من قبل برلين، التى تعد من أقرب حلفائها الأوروبيين.
فى جزئية التوثيق الإعلامى للجرائم الإسرائيلية فى غزة وغيرها من البلدان العربية، مثل لبنان وسوريا واليمن، هناك أرقام وإحصائيات يمكنها أن تختصر الكثير فى هذه المسألة، منها ما نشرته القناة الإسرائيلية 12 عن أن 83% من منشورات وسائل التواصل الاجتماعى المتعلقة بالحرب، عارضت إسرائيل، بينما دعم 9% فقط سرديتها، مما يعكس تراجع هيمنتها الإعلامية.
تشير دراسات ومقالات تحليلية، منها ما تم نشره فى مجلة Foreign Affairs، إلى أن الحرب على غزة تحولت إلى صراع إعلامى عالمى عبر منصات مثل «إكس» و«تيك توك»، وشهد فيها المحتوى الفلسطينى انتشارًا بسرعة أكبر من الدعاية الإسرائيلية، وعزز هذا الانتشار غضب المستخدمين من الجرائم الإسرائيلية.
أيضًا، أشارت تقارير إلى أن منصات مثل «تيك توك» و«إنستجرام» ملأت الفجوات فى تغطية الإعلام الغربى التقليدى، الذى اعتمد على الرواية الإسرائيلية بشكل كبير وكلامها المرسل، وفى الوقت ذاته كان الصحفيون فى غزة والمواطنون ينشرون محتوى حقيقيًا مثل فيديوهات للدمار والشهداء، مما زاد من الوعى العالمى بما ترتكبه قوات الاحتلال من جرائم فى القطاع، وبالتالى حققت هاشتاجات مثل #FreePalestine و#GazaUnderAttack مليارات المشاهدات فى المنصات المختلفة.
خسارة الحرب الإعلامية
فى ظل المعطيات السابق الإشارة إليها، لن يكون غريبًا أن صحيفة فرنسية عريقة مثل «لوفيغارو» تخرج على قرائها قائلة: إن إسرائيل خسرت الحرب الإعلامية، وتدهورت صورتها فى العالم.
الصحيفة الفرنسية قالت: إن مقطع فيديو يُظهر خيامًا تشتعل فيها النيران بمخيم للاجئين فلسطينيين فى رفح، صدم الرأى العام، وكان يعادل صورة الفتاة الصغيرة التى أحرقت بالنابالم فى حرب فيتنام، وهى تركض عارية على الطريق، وعلى وجهها علامات الرعب.
حديث الصحيفة الفرنسية وغيرها ليس سوى إقرار بأمر واقع كارثى فى القطاع، ولا يمكن تجاهله، ويكفى النظر إلى عداد الأرقام الذى لا يتوقف فى كل لحظة، وبحسب آخر ما أعلنته وزارة الصحة فى قطاع غزة، فقد ارتفعت حصيلة الشهداء فى القطاع إلى 62 ألفًا، أغلبيتهم من الأطفال والنساء، ووصل عدد المصابين إلى أكثر من 152 ألف مصاب.
وبخلاف الأرقام والفيديوهات المرعبة، بات لا يُمكن تجاهل أوضاع كارثية مثل اجتياح المجاعة لأرجاء القطاع، وخروج مشاهد مرعبة لأطفال يموتون جوعًا بسبب منع إسرائيل قوافل المساعدة، لدرجة أن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بنفسه لم يعد قادرًا على إنكار المأساة الإنسانية لأهالى غزة.
مزق صورتك القديمة
الآن، نرى مظاهرات حاشدة فى كل أنحاء العالم تجوب أكبر وأشهر الميادين تنديدًا بالإبادة الجماعية فى غزة، تضم مختلف الأطياف، ليس فقط من الشباب، بل من كبار السن، كذلك الذين كانوا يومًا ما مشبعين بالدعاية الإسرائيلية.
وأيضًا نرى مشاركة واضحة من أصحاب الديانة اليهودية بشكل فردى، وحركات يهودية بارزة على رأسها «جماعة الصوت اليهودى من أجل السلام»، التى تعتبر أكبر منظمة يهودية تقف فى تضامن مع فلسطين عالميًا، وتنظم احتجاجات واسعة فى الولايات المتحدة وأوروبا ضد الحرب فى غزة.
ليست الحركات اليهودية الداعية للسلام فقط التى تشارك، فقد شهدت الاحتجاجات مشاركة ناجين من الهولوكوست، منهم على سبيل المثال الناجية من المحرقة النازية، ماريون إنغرام، 88 عامًا، التى قالت فى إحدى المسيرات: إنها تعرف ما يعيشه أطفال قطاع غزة، لأنها اختبرت ذلك فى معسكرات النازية، مطالبة بوقف المجازر فى القطاع.
مشاركة الناجين من الهولوكوست فى الاحتجاجات تبقى لها دلالة مهمة جدًا أمام المجتمع الغربى ووسائل الإعلام الدولية، التى تحاول تجميل صورة إسرائيل أمام العالم، وتؤكد أن وصف غزة بأنها معسكر نازى جديد ليس مبالغة، وأن ما فعله النازيون يكرره حاليًا جيش الاحتلال الإسرائيلى، وكذلك يوجه ضربة قاتلة لأى سردية إسرائيلية تتحدث عن كونها ضحية وتريد الدفاع عن نفسها، وأن الحقيقة التى يجب على العالم أن يعرفها هى أنه محتل ومغتصب للأرض، يحق لكل أبناء الشعب الفلسطينى مقاومته بشتى السبل، وأنه يجب على أى إنسان حر فى العالم دعم القضية الفلسطينية والتحرر من اتهامات معاداة السامية أو غيرها من اتهامات روجت لها إسرائيل لعقود من الزمن.

Trending Plus