صنع الله إبراهيم.. ضمير الوطن وإنسانيته

عندما أحد يسألني أويتحدث عن الروائي الكبير صنع الله إبراهيم كنت دائما أقول: "هو ليس بس كاتب، إنه حالة كاملة من الصدق والنقاء والجرأة".
صنع الله إبراهيم لم يكن مجرد روائي تُقرأ كتبه وتعاد إلى الرف، بل كان إنسانًا تحمله بين ضلوعك بعد أن تطوي الصفحات، فقد كنت أنا من القليلين الذين أتيح لهم الاقتراب من عالمه عن قرب، وعرفت أن وراء هذه الشخصية الصارمة الظاهرة، قلبًا دافئًا لا يتوقف عن القلق على بلده وشبابها.
كل لقاء بيننا كان يبدأ بالاطمئنان، حتى في أصعب لحظات مرضه، كان صوته فيه قوة غريبة، وكأنه هو من يطمئنك لا العكس، "متقلقش، أنا كويس"، ثم يغيّر الموضوع سريعًا ليحدثك عن كتاب قرأه أو قضية تشغل باله، كان يؤمن أن المعرفة هي السلاح الحقيقي، وأن القراءة هي ما تحرر العقول قبل أن تحرر الأوطان.
مواقفه الوطنية لم تكن شعارات يرددها في أحاديث عامة، بل قناعات دفع ثمنها من عمره وحريته منذ شبابه، واجه السجن والمنع والرقابة، لكنه لم يساوم، كان يرى أن المثقف الحقيقي لا يقف على الحياد في معارك الوطن، وأن عليه أن ينحاز للحرية والعدالة مهما كانت الضغوط، كان دائمًا يذكرني حلال حواراتي معه والتي كانت تنشر في "اليوم السابع"، بأن الاستقلال الوطني والعدالة الاجتماعية هما جناحا أي نهضة، وأن الصبر والعمل المستمر هما الطريق الوحيد لتحقيقهما.
أما عن أعماله الأدبية، فهي شهادات حية على زمنها، وثائق إنسانية وسياسية تحفظ ما قد يطمسه النسيان، من "ذات" التي رصدت تحولات المجتمع المصري، إلى "شرف" التي فضحت أوجاع السجون وعوالمها المظلمة، كانت رواياته مرايا نرى فيها أنفسنا، بعيوبنا وأحلامنا وهزائمنا الصغيرة والكبيرة، فكان لم يكن يكتب ليرضي أحدًا، بل ليكشف عن قضايا مهمة ومثيرة بعيدًا عن الخوف.
أكثر ما كان يلمسني فيه هو اهتمامه بالشباب، كان يقرأ ما يرسله له الكتاب الجدد بجدية واحترام، وكأنهم زملاء لا مبتدئين، كان يقول لي: "لو إحنا ما سندناش الجيل الجديد، يبقى إحنا بنقتل الأدب بإيدينا". كان يعطي ملاحظاته بصراحة، وأحيانًا بصرامة، لكنه كان يسعد حين يرى موهبة تنضج أو فكرة تثمر.
اليوم، ورغم أن الروائى الكبير صنع الله إبراهيم قد طوى صفحته الأخيرة ورحل، إلا أن حضوره ما زال قويًا، في كل مرة أفتح كتابًا له، أشعر وكأنه يجلس أمامي، يبتسم ابتسامته الهادئة، ويبدأ في الحديث عن مصر، عن الناس، عن الحرية، وعن أهمية أن تبقى الكلمة حرة مهما كانت التكاليف، لقد كان صنع الله إبراهيم أكثر من مجرد كاتب، فقد كان ضميرًا حيًا، صديقًا وفيًا، ورجلًا لم ينحنِ إلا لصفحات كتاب.

Trending Plus