طوى صنع الله إبراهيم صفحته الأخيرة.. أحد أعمدة الرواية المصرية والعربية.. روايته شرف ضمن أفضل 100 رواية.. و"ذات" تحولت لمسلسل تليفزيوني ناجح

الأديب الكبير الراحل صنع الله إبراهيم هو أحد أبرز رواد الأدب فى مصر، حيث يعد علامة من علامات الأدب المصرى، وأحد أعمدة الرواية المصرية والعربية وأصدر خلال حياته مجموعة كبيرة ومميزة من الأعمال الأدبية والتي تنوعت بين الرواية والقصة القصيرة وقصص الأطفال، ودخلت بعضها فى قائمة أفضل مائة رواية عربية، وقد رحل عن عالمنا اليوم الأربعاء عن عمر ناهز 88 عاما، إثر إصابته بالتهاب رئوي، تاركًا وراءه إرثًا أدبيًا ثريًا امتد لعقود، وقلوب عشاق الأدب حائرة بين الألم على فراقه والامتنان لما قدّمه من نصوص صارت جزءًا من التاريخ الثقافي.
وكان الروائي الكبير صنع الله إبراهيم قد تعرض في الأول من مايو الماضي لحادث سقوط بمنزله، نتج عنه كسر في عنق عظمة الفخذ الأيمن، وقد تم نقله إلى مستشفى معهد ناصر، حيث تعامل فريق من الاستشاريين مع حالته، وأُجريت له عملية جراحية ناجحة، وخرج من غرفة العمليات بحالة صحية مستقرة، ثم تدهورت حالته من جديد إثر تعرضه لالتهاب رئوي حاد لينقل مرة أخرى إلى المستشفى للعلاج عبر جهاز تنفس صناعي، ولكنه لم يستمر طويلا ليرحل بسلام.
صنع الله إبراهيم
ولد صنع الله إبراهيم بالقاهرة عام 1937م، وكان لوالده أثرٌ كبير على شخصيته، فقد زوَّده بالكتب والقصص وحثَّه على الاطِّلاع، فبدأت شخصيتُه الأدبية في التكوين منذ الصِّغَر، درس صنع الله إبراهيم الحقوق، لكنه سرعان ما انصرف عنها متجهًا إلى الصحافة والسياسة، كما انضم للمُنظَّمة الشيوعية المصرية "حدتو"، واعتقل بسببها عام 1959م وظل في السجن خمسَ سنوات حتى عام 1964م.
بعد خروجه من السجن بدأ العمل الصحفي بوكالة الأنباء المصرية عام 1967م، ثم عمل لدى وكالة الأنباء الألمانية في برلين الشرقية عام 1968م، حتى عام 1971م، وبعدها اتَّجه إلى موسكو لدراسة التصوير السينمائي، والعمل على صناعة الأفلام، ثم عاد إلى القاهرة عام 1974م في عهد الرئيس السادات، وتَفرَّغ للكتابة الحُرة كليًّا عام 1975م.
أشهر أعمال صنع الله إبراهيم
تَميَّز إنتاج صنع الله إبراهيم الأدبي بالتوثيق التاريخي، والتركيزِ على الأوضاع السياسية في مصر والعالَم العربي، فضلًا عن سرده الكثيرَ من حياته الشخصية، ومن أشهر أعماله: رواية "شرف" التي تحتلُّ المرتبةَ الثالثة ضمن أفضل مائة رواية عربية، و"اللجنة"، و"ذات"، و"الجليد"، و"نجمة أغسطس"، و"بيروت بيروت"، و"النيل مآسي"، و"وردة"، و"العمامة والقبعة"، و"أمريكانلي"، وغيرها من الأعمال الأدبية التي تحظى بمكانة متميزة في عالم الأدب.
صنع الله إبراهيم مترجمًا
وبعيدًا عن الرواية الإبداعية، قام الكاتب الكبير بترجمة بعض الأعمال من الأدب العالمي وهي: التجربة الأنثوية: مختارات من الأدب النسائي العالمي جمع وترجمة صنع الله إبراهيم، العدو لـ جيمس دروت، الحمار لـ جونتر دي بروين.
كتب وروايات علمية كتبها صنع الله إبراهيم
بجانب رواياته الشهيرة، كتب الراحل عدد من الأعمال ذات الصيغة العلمية للأطفال، ومنها "يوم عادت الملكة القديمة"، و"عندما جلست العنكبوت تنتظر"، و"اليرقات في دائرة مستمرة"، و"الحياة والموت في بحر ملون"، و"حكايات علمية للصغار".
صنع الله إبراهيم من الرواية إلى السينما
عرف عن صنع الله إبراهيم تحفظه على تحويل رواياته إلى أعمال فنية، بسبب خشيته من تشويه رسالتها أو تسطيح أبعادها السياسية، وقد عبر عن ذلك في عدة لقاءات صحفية، حيث أبدى اعتراضه على بعض المعالجات الدرامية حتى وإن كانت مقتبسة من أعماله.
ومن بين أعمال صنع الله إبراهيم هناك واحدة تحولت إلى مسلسل تليفزيونى ناجح يحمل نفس عنوان الراوية "ذات" عام 2013، من بطولة نيللى كريم، وإخراج كاملة أبو ذكرى وخيرى بشارة، حقق المسلسل نجاحًا واسعًا، ويُعد من أبرز الأعمال الدرامية المقتبسة عن روايات صنع الله إبراهيم.
رواية "ذات" هي رواية اجتماعية، نشرت لأول مرة عام 1992، تدور أحداثها حول قصة حياة السيدة المصرية ذات وترصد التغييرات الاجتماعية والاقتصادية التى حدثت للمصريين منذ ثورة 1952 وحتى نهاية القرن العشرين، وقد تم تحويلها لمسلسل تليفزيونى باسم بنت اسمها ذات، وترجمها إلى الإنجليزية أنطونى كولدربانك.
"ذات" هى الرمز الذى حاول صنع الله إبراهيم من خلاله أن يصور المجتمع المصرى الذى يموج بقيم ومعتقدات تتحكم بفكره وبحياته، مجتمع ينوء مواطنه بأحمال الظروف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهذه يورد وقائعها منقولة عن الصحف المصرية الحكومية منها والمعارضة ليعكس الجو الإعلامى العام الذى أحاط بمصائر شخصياته وأثر فيهم. فى "ذات" يتداخل الخيال والواقع، الرمز والحقيقة ليجسد أبعاداً إنسانية عبّر عنها صنع الله إبراهيم بأسلوب يُقَرِّب "ذات" من كل ذات، فهى الحقيقة المتوارية خلف الذات.
رواية شرف ضمن أفضل 100رواية عربية
كما دخلت روايته "شرف"، ضمن أفضل 100 رواية عربية، وتتحدث الرواية عن دخول الطالب الجامعي "أشرف"، أو "شرف" كما كانت تحب أن تناديه والدته، السجنَ في جريمة قتل دفاعًا عن شرفه، ولكن في عالم السجن المخيف المليء بالفساد والإفساد، والظلام والإظلام، يستسلم "شرف" في النهاية لهذا العالَم المخيف العديم الشرف. تجربةٌ مريرة وفاضحة قدَّمها "صنع الله إبراهيم" ببراعةٍ فائقة، حتى استحقَّت روايته أن تحتلَّ المركز الثالث ضمن قائمة اتحاد الكتاب العرب لأفضل مائة رواية عربية، التي نُشرت في عام 2001.
فمن خلال "شرف" يقتحم كاتبنا عالَم السجون ليقدِّم لنا كل صور التعذيب وانتهاك آدمية الإنسان، ويرفع الستار عن أكذوبة انتصاراتنا الوهمية، وعن أكذوبة الاقتصاد العالمي، والشركات المتعددة الجنسيات، وخاصة شركات الأدوية التي تتَّخذ من دول العالم الثالث سوقًا رائجة لتربح المليارات من أرواح ملايين المرضى من الشعوب البائسة، تنتمي الرواية إلى أدب السجون، وتُعَد وثيقةً مهمة لظلامية المرحلة.
جوائز حصدها صنع الله إبراهيم
أثير حول صنع الله إبراهيم الكثير من الجدل بسبب رفضه استلام "جائزة الرواية العربية" التي يمنحها المجلس الأعلى للثقافة، عام 2003م، كما نال العديد من الجوائز العربية المهمة، مثل "جائزة ابن رشد للفكر الحر" عام 2004م، و"جائزة كفافيس للأدب" عام 2017م، وجائزة تكريمية نالها عند بلوغه عامه الثمانين قدمت له باسم المثقفين المصريين.
آخر قراءات صنع الله إبراهيم
وقبل أن يرحل، كان صنع الله إبراهيم يقرأ كتابًا لم يكن مجرد صفحات تتحرك بين يديه، بل رحلة تاريخية تغوص في عمق المعاناة الإنسانية، وتستحضر ذاكرة العبودية في أمريكا وهى رواية "نسب" للكاتبة أوكتافيا بتلر.
في حواره الأخير مع "اليوم السابع"، قبل أن يدخل في دوامة المرض، أخبرنا أنه يقرأ الآن رواية "نسب" للكاتبة الأمريكية أوكتافيا بتلر، بترجمة الفلسطينية منى كريم، ولم يكن الأمر مجرد تسلية أو قراءة عابرة، بل غوص في عمل أدبي قضت مؤلفته عشر سنوات في بنائه، بين مذكرات العبيد والوثائق الرسمية وأرشيف الجمعيات التاريخية، وحتى زيارات ميدانية لولاية ماريلاند، حيث دارت أحداث الرواية.
كان يتحدث عنها بحماس وكأنها نافذة مفتوحة على التاريخ الإنساني بكل ما فيه من جروح وأوجاع، وربما كان في تلك اللحظة يرى تشابهًا بين رحلة شخصيات الرواية في مواجهة القهر، ورحلته هو نفسه في مواجهة المرض.
ورغم تراجع صحته، ظل وفياً لعادته القديمة قراءة أعمال الشباب الذين يرسلون له كتبهم، وإبداء رأيه بصراحة، مؤمنًا أن الأدب لا يعيش إلا إذا تواصلت الأجيال.
وقد طوى صنع الله إبراهيم صفحته الأخيرة، تاركًا وراءه مكتبة من النصوص التي ستظل حية، تمامًا كما ستظل رواية "نسب" آخر أثر في ذاكرة قراءته، شاهدة على شغفه بالمعرفة حتى اللحظة الأخيرة.

Trending Plus