مها عبد القادر تكتب: مصر وأوغندا... حوار النيل ووعي الإرادة في مواجهة الإجراءات الأحادية لمستقبل الحوض الأفريقي

مها عبد القادر تكتب عن الأمن المائى
مها عبد القادر تكتب عن الأمن المائى

منذ أن خط نهر النيل مساره الخالد في قلب القارة الإفريقية، وهو يكتب بين ضفتيه حكاية حضارات وشعوب توحدها المياه وتربطها الأقدار، وتجمعها رؤية المصير المشترك، وفي قلب هذه الحكاية العريقة، تقف مصر وأوغندا، دولتان شقيقتان جمعهما النيل، وظل على مر العصور الرابط الأزلي الذي يوحد وجدان الشعبين، ويغذي حياتهما، ويشكل مصدرًا للتكامل والتعاون بينهما، ولقد أقام هذا النهر العظيم بين مصر وأوغندا جسورًا من التفاهم والمصالح المشتركة، وعزز عبر تاريخه الطويل أواصر التضامن والدعم المتبادل في شتى الميادين وعلى مدار عقود، اتسمت العلاقات المصرية – الأوغندية بروح التعاون الوثيق، وتبادل المساندة في مختلف المحافل الإقليمية والدولية، انطلاقًا من إيمان راسخ بأن استقرار كل طرف هو ركيزة أساسية لاستقرار الآخر، وأن أمن النيل هو أمن مشترك لا يقبل التجزئة.

ومع تعاظم التحديات التي تواجه القارة الإفريقية والعالم، تدخل هذه العلاقات مرحلة جديدة من العمق والتنوع، مدفوعة بوعي سياسي وإدراك استراتيجي بأن قضايا العصر لا يمكن مواجهتها إلا عبر شراكات أوسع، وأطر أكثر ابتكارًا للتعاون، تجمع بين التنمية المستدامة، وحسن إدارة الموارد، وتعزيز التكامل الإقليمي بما يخدم تطلعات الشعبين ويصون مصالحهما للأجيال القادمة، وقد شكلت زيارة الرئيس الأوغندي يوري موسيفيني إلى القاهرة محطة استراتيجية بارزة، أسهمت في إعادة صياغة أجندة التعاون بين مصر وأوغندا على نحو أكثر شمولًا وعمقًا، فقد جاءت هذه الزيارة لتؤكد الإرادة السياسية لدى قيادتي البلدين في الانتقال بالعلاقات الثنائية من إطار التعاون التقليدي إلى شراكة استراتيجية متكاملة، تستجيب لتحديات المرحلة وتفتح آفاقًا أوسع للتنمية المشتركة.
وقد تم خلال المباحثات التي جمعت الرئيس موسيفيني بالرئيس عبد الفتاح السيسي، التوقيع على حزمة من مذكرات التفاهم والاتفاقيات النوعية، شملت مجالات حيوية ومتعددة، فقد تم الاتفاق على إدارة الموارد المائية بما يحقق الاستخدام الرشيد والمستدام لنهر النيل، وتعزيز التعاون الزراعي والغذائي لضمان الأمن الغذائي وتطوير سلاسل القيمة المضافة، إلى جانب تشجيع الاستثمار وتهيئة بيئة أعمال جاذبة في كلا البلدين، كما شملت التفاهمات الإعفاء المتبادل من تأشيرات الدخول لحاملي الجوازات الرسمية، بما يسهم في تسهيل حركة المسؤولين وتعزيز التواصل المؤسسي، إضافة إلى التعاون الدبلوماسي من خلال إنشاء معهد دبلوماسي أوغندي بدعم مصري، فضلًا عن تعزيز الشراكات الفنية والاقتصادية، بما يفتح المجال أمام مشروعات مشتركة في مجالات الطاقة والبنية التحتية والتعليم والتكنولوجيا.
ويعكس هذا الزخم في الاتفاقيات والبرامج الموقعة إرادة سياسية واضحة للانتقال بالعلاقات المصرية – الأوغندية من إطار التشاور وتبادل الرؤى إلى مستوى التنفيذ الفعلي والخطط العملية ذات الأثر المباشر، وقد تجسد ذلك في الاتفاق على الإسراع بتشكيل مجلس أعمال مشترك يكون منصة دائمة للتواصل بين مجتمعَي الأعمال في البلدين، وتنسيق الجهود لزيادة حجم التبادل التجاري والاستثمارات المشتركة.
كما شمل التوجه الجديد تنظيم زيارات متبادلة لرجال الأعمال والمستثمرين، بما يتيح الاطلاع على الإمكانات والفرص المتاحة على أرض الواقع، وفتح قنوات للتعاون المباشر بين الشركات والمؤسسات الاقتصادية، وقد توجت هذه الجهود بانعقاد منتدى استثماري موسع على هامش الزيارة، مثل فرصة استراتيجية لاستكشاف مجالات جديدة للتعاون، سواء في الزراعة أو الصناعة أو البنية التحتية أو الطاقة المتجددة، ولم تتوقف الخطوات عند حدود التخطيط، بل بدأت بالفعل خطوات عملية لإطلاق مشروعات تنموية مشتركة، من شأنها أن تحقق منفعة متبادلة، وتسهم في تحسين معيشة المواطنين، وتعزز من قوة الشراكة الاستراتيجية بين مصر وأوغندا، لتكون نموذجًا للتعاون الإفريقي – الإفريقي القائم على المصالح المشتركة والرؤية المستقبلية.
ولم يكن التعاون الأمني غائبًا عن المشهد الاستراتيجي للعلاقات المصرية – الأوغندية، بل ظل حاضرًا كركيزة أساسية تدعم الشراكة بين البلدين، فقد أكد الجانبان، خلال المباحثات، أهمية استمرار التنسيق والتشاور في هذا المجال الحيوي، مع الاتفاق على عقد لجنة التعاون العسكري بشكل سنوي لمراجعة مجالات التعاون القائمة، وتطوير آليات جديدة لمواجهة التحديات المشتركة، ويمثل هذا التوجه امتدادًا طبيعيًا للتفاهمات العسكرية والأمنية التي تعززت عقب زيارة قائد قوات الدفاع الشعبي الأوغندية إلى مصر، وما أسفرت عنه من بناء جسور الثقة وتبادل الخبرات في مجالات التدريب والتأهيل والدعم الفني.
وفي منطقة حوض النيل، التي تشهد في السنوات الأخيرة تصاعدًا في التحديات الأمنية وازدياد حدة النزاعات العابرة للحدود، يكتسب هذا التعاون أهمية مضاعفة لضمان استقرار الممرات المائية وحماية المصالح الاستراتيجية للدول المطلة، وعلى رأسها الأمن المائي، الذي يمثل شريان حياة لشعوب المنطقة، كما يسهم هذا التنسيق في تعزيز القدرة الجماعية على مواجهة التهديدات الإقليمية، من الإرهاب والتهريب إلى القرصنة والاعتداءات على الموارد الطبيعية، بما يرسخ دور الشراكة المصرية – الأوغندية كعامل استقرار إقليمي لا غنى عنه.
لكن قلب المباحثات كان نهر النيل، الذي وصفه الرئيس السيسي بشريان الحياة لكلا من البلدين، مؤكدًا أن التعاون بين دول حوض النيل يجب أن يستند إلى مبدأ مراعاة مصالح الجميع، وتحقيق المنفعة المشتركة، والحفاظ على هذا المورد الحيوي في إطار قواعد القانون الدولي التي تكفل الحقوق وتحمي الموارد من الاستنزاف، وقد استشهد الرئيس السيسي بحكمة نظيره الأوغندي، حين قال بدون الحفاظ على بيئة حوض النيل، لن نجد شيئًا نتقاسمه، وهي عبارة تختصر فلسفة الموقف المصري في قضية المياه.
وترى مصر أن التنمية الحقيقية لا ينبغي أن تكون على حساب الأمن المائي لأي دولة، وأنه من الضروري أن تتكامل المصالح بدلاً من أن تتصادم، من خلال مشروعات مشتركة تعزز الاستخدام الرشيد للمياه، وتحافظ على التوازن البيئي للحوض، وتعكس هذه الرؤية إيمانًا راسخًا بأن الأمن المائي هو أساس الأمن القومي، وأن حماية نهر النيل لا تنفصل عن مسيرة التنمية المستدامة في القارة الإفريقية، حيث يصبح الحفاظ على المورد هو الضمانة الوحيدة لبقاء الحياة واستمرار الازدهار للشعوب التي تعيش على ضفافه.
وفي خطوة تعكس البعد العملي لرؤية مصر في دعم التنمية الإفريقية، أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسي دعم مصر الكامل لجهود التنمية في أوغندا وسائر دول حوض النيل الجنوبي، مؤكدًا استعداد القاهرة للمساهمة الفاعلة في مشروعات استراتيجية تخدم المصالح المشتركة، وفي هذا الإطار، كشف السيسي عن استعداد مصر للمشاركة في تمويل مشروع سد أنجلولو بين أوغندا وكينيا، من خلال آلية استثمار مصرية مخصصة للبنية التحتية في دول الحوض، بما يعكس التزامًا مصريًا بالانتقال من مرحلة التعاون السياسي إلى تنفيذ مشروعات تنموية ملموسة على الأرض.
كما شهدت المباحثات توقيع مذكرة تفاهم جديدة في مجال الإدارة المتكاملة للموارد المائية، على مدى خمس سنوات، امتدادًا لشراكة استراتيجية بين القاهرة وكمبالا تمتد لأكثر من عقدين، تخللتها برامج تدريبية ومشروعات مائية وتنموية أثبتت فعاليتها في خدمة المجتمعات المحلية وتحقيق الاستخدام الأمثل للمياه، ويعكس هذا التوجه المصري إدراكًا عميقًا بأن تنمية دول الحوض وتعزيز بنيتها التحتية هو استثمار مباشر في استقرار المنطقة وأمنها المائي، وأن الشراكات القائمة على المصالح المتبادلة قادرة على بناء جسور الثقة وتجنب الصراعات على الموارد، في ظل تزايد التحديات البيئية والمناخية.
وبلهجة واضحة لا تحتمل التأويل، جدد الرئيس عبد الفتاح السيسي التأكيد على أن مصر ليست ضد التنمية في دول حوض النيل، ولكن تدعمها وتساندها، شريطة أن تتم في إطار يحفظ الحقوق المائية التاريخية لمصر ويضمن عدم المساس بأمنها المائي، واستند السيد الرئيس في طرحه إلى أرقام صادمة تكشف واقع المعادلة المائية في الحوض: إذ يتساقط نحو 1600 مليار متر مكعب من المياه سنويًا على حوض النيل، إلا أن ما يصل إلى مصر والسودان لا يتجاوز 85  مليار متر مكعب، أي ما يعادل  4% فقط من إجمالي الموارد المائية للحوض.
ووجه السيد الرئيس رسالة حاسمة قال فيها لا يمكن لاحد أن يتصور أن مصر ستتخلى عن مياهها، فالتخلي عن أي جزء منها يعني التخلي عن حياتنا، وهذا أمر لن يحدث، موضحًا أن مصر، التي يطلق عليها في الثقافة الأوغندية الحديقة، لا تمتلك مصدرًا آخر للمياه سوى نهر النيل، ولا تعرف أمطارًا موسمية تغذيها كما هو الحال في دول المنابع، وهو ما يفسر حساسية الموقف المصري وحذر الشعب إزاء أي تهديد محتمل لموارده المائية، وبهذا الطرح المبني على الحقائق، وضع الرئيس النقاش في إطاره الواقعي، مؤكدًا أن التنمية الإقليمية يمكن أن تتحقق بالتكامل وبالتعاون وليس بالمواجهة أو التصادم، إذا ما استندت إلى مبادئ العدالة والمنفعة المشتركة واحترام القانون الدولي.
ولم يكتفِ الرئيس عبد الفتاح السيسي بإرسال الرسائل الدبلوماسية الموجهة إلى الخارج، فقد حرص على أن يخاطب الداخل المصري برسالة طمأنة وثقة، مؤكدًا أن وعي المصريين وصلابتهم يمثلان الركيزة الأولى في مواجهة أي تهديد قد يطال أمنهم المائي، وقال بحسم لن نسمح أبدًا بالمساس بالمياه التي يعيش عليها 105 ملايين مواطن، و10 ملايين ضيف يعيشون بيننا ولا نسميهم لاجئين.
وتحمل هذه العبارة في جوهرها إدراكًا بأن معركة الأمن المائي هي معركة وعي واصطفاف وطني، حيث يتقاسم الشعب مسؤولية الدفاع عن شريان حياته مع قيادته السياسية، وتحمل رسالة غير مباشرة إلى المجتمع الدولي، مفادها أن المساس بمصدر الحياة الوحيد لمصر خط أحمر لا يقبل المساومة أو التجاوز، وأن أي محاولة للعبث بتوازن نهر النيل هي تهديد وجودي سيقابل بإرادة راسخة وموقف موحد، وبذلك جاءت كلمات السيد الرئيس معادلة ردع سياسية وشعبية، تؤكد أن مصر تراهن على قوتها الدبلوماسية أو العسكرية، وتلاحم شعبها ووعيه التاريخي في مواجهة التحديات المصيرية.
وتتشكل رؤية مصر وأوغندا لمستقبل حوض النيل على أساس التعاون الشامل والشراكة المتكاملة، إدراكًا منهما أن التحدي الأكبر الذي يواجه دول الحوض لا يكمن في ندرة المياه بقدر ما يكمن في حسن إدارة ثروته الهيدرولوجية الضخمة، والمقدَّرة بنحو 1600 مليار متر مكعب سنويًا، التحدي هو كيف يمكن استثمار هذه الكمية الهائلة بما يحقق التنمية المستدامة، ويحافظ على البيئة، ويصون حقوق الأجيال القادمة.
ويعكس هذا الوعي المشترك، الذي وحد رؤية الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظيره يوري موسيفيني قناعة عميقة بأن إفريقيا حان لها أن تخرج من دوائر النزاع إلى آفاق البناء، وأن نهر النيل، الذي ظل على مر آلاف السنين شريانًا للحياة، يمكن أن يتحول في العصر الحديث إلى جسر متين يوصل بين الشعوب، وفي ظل هذا الإدراك، تمضي مصر في تعزيز روابطها مع أشقائها في دول الحوض عبر مبادرات تنموية طموحة، واستثمارات استراتيجية في البنية التحتية، ودعم مؤسسات التعاون الإقليمي، واضعة نصب أعينها أن التكامل المائي والاقتصادي هو السبيل لضمان الاستقرار الإقليمي، وبالتالي تعول القاهرة على الدور القيادي لأوغندا في رئاسة اللجنة السباعية لدول الحوض، باعتبارها منصة لإعادة الشمولية والتوافق، وترسيخ مبدأ أن النهر العظيم ليس ملكًا لدولة بعينها، بل ميراث مشترك ومسؤولية جماعية.
ونؤكد أن نهر النيل هو ذاكرة وهوية ومصير، تتجسد فيه حكاية الحضارة المصرية منذ فجر التاريخ، ومصر التي عرفها الأوغنديون على مر العصور باسم الحديقة، تدرك تمام الإدراك أن هذه الحديقة لا تزهر ولا تحيا إلا بمياهه، لذلك فإن الحفاظ على النهر وضمان تدفقه المتجدد هو خيارًا سياسيًا أو اقتصاديًا وشرط وجودي لحياة أمة بأكملها، ومن هنا تحمل مصر رسالتها إلى العالم بأن التعاون هو السبيل الأوحد لصون هذا الشريان الأزلي، وأن الحفاظ على الحياة على ضفافه يتطلب إدراكًا جماعيًا بأن نهر النيل ليس ملكًا لدولة بعينها، لكن هو عهد إنساني وبيئي بين شعوب حوض النيل، يستدعي من الجميع العمل بروح الشراكة والمسؤولية المشتركة.

 

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

اللجنة المصرية توزع آلاف الطرود الغذائية على سكان غزة.. فيديو وصور

الإعدام شنقا للمتهم بقتل زوجته حرقا فى الشرقية

اعترافات طلاب مطاردة فتيات الواحات: لاحقناهما وحاولنا إيقاف السيارة

أول صورة للمتهمين بمطاردة فتيات طريق الواحات

النيابة تستدعى مصور حادث مطاردة سيارة فتيات طريق الواحات لسؤاله حول الواقعة


والدة فتاة حادث طريق الواحات: “مش هتنازل عن حق بنتى.. والرعب اللى عاشته”

بيراميدز يتفوق على الإسماعيلى فى المواجهات قبل لقاء اليوم بالدورى

وفاة بطل حريق شبرا الخيمة متأثرا بإصاباته بحروق فى جميع أنحاء جسده

ذروة الموجة الحارة.. تحذير من الأرصاد للمواطنين والقاهرة تسجل 42 درجة فى الظل

زوجة "بيليه فلسطين" توجه نداءً عاجلاً إلى محمد صلاح


النيابة تحقق فى مطاردة 3 طلاب سيارة فتيات بطريق الواحات

هل يحتفظ عضو مجلس الشيوخ بوظيفته الأساسية أثناء الانعقاد؟ القانون يجيب

المطلقات والمرأة المعيلة أولوية فى وحدات بديلة بقانون الإيجار القديم

في ذكراها.. شويكار في تصريح سابق لليوم السابع: شقيقتى لم تعمل في مجال الفن

ناشئو اليد أمام إسبانيا فى ربع نهائى بطولة العالم تحت 19 عاما

هل يجوز إخلاء وحدات الإيجار القديم بالتراضى بعد صدور القانون؟.. التفاصيل

بعد قرار الجنايات.. فصل جديد ينتظر قضية "قهوة أسوان" بعد تأجيلها للمرافعة

14 ألف فرصة عمل و317 مشروعا.. المنطقة الصناعية بحى الكوثر نهضة كبيرة بسوهاج

لو مأجر قديم وعندك شقة تانية.. خد بالك القانون يقضى بالإخلاء

"أهداف متتالية وهاتريك تاريخي".. سجل حافل يدعم محمد صلاح ضد بورنموث

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى