أكرم القصاص يكتب: صنع الله و«الجليد» وأنا و«اليوم السابع».. لقاء لا ينسى مع الروائى الكبير

على مدى سنوات التقيت الروائى الكبير الراحل صنع الله إبراهيم، منها لقاءات وحوارات امتدت لساعات طوال فى شقته بمصر الجديدة، ولقاءات قليلة لكنها كانت فارقة مع المبدع الكبير فى «اليوم السابع»، عام 2010، وهو من أهم اللقاءات التى جمعتنى بالروائى العظيم وأظهرت لى جوانب مهمة فى شخصيته تمثل علامات فارقة، وأيضا تفسر كيف يظل هذا النموذج للمبدع مخلصا لعمله دائما، بجانب إخلاصه لإبداعه، واحترامه وتواضعه مع اعتزاز بنفسه، وهى معادلة من الصعب أن تجتمع فى إنسان لكنها اجتمعت فى صنع الله، الذى كنت أقرأ له منذ أوائل الثمانينيات من القرن العشرين، مع عدد من كبار مبدعى الرواية والقصة، والذين صاغوا المشهد الأدبى على مدى أكثر من نصف قرن.
كان عندما كتب صنع الله روايته «الجليد»، وعلمت بأنه انتهى منها، وأبلغت رئيس التحرير الصديق خالد صلاح، الذى فوضنى للاتفاق مع صنع الله، واتصلت به لكى ننشرها مسلسلة فى «اليوم السابع» حيث وافق والتقينا بسرعة لم يستغرق الأمر وقتا، وبالرغم من أن صنع الله إبراهيم كان روائيا مشهورا مصريا وعربيا، لكنه لم يظهر أى نوع من الاشتراطات، غير أن تصدر الحلقات فى شكل جيد، ويومها كان الفنان الصديق أحمد خلف طايع، فى بداية عمله بـ«اليوم السابع»، وقلت له إنها فرصة ليدخل التاريخ، وكلفته أن يقرأ الحلقات ويرسم لوحات تنشر مع الحلقات، وبالفعل بدأ أحمد خلف يرسم لوحات متنوعة تناسب الرواية، التى كانت تمثل توثيقا روائيا، مختلطا بسيرة صنع الله إبراهيم أثناء دراسته للتصوير فى موسكو، عاصمة الاتحاد السوفيتى عام 1971، والواقع أن صنع الله - كعادته فى أعماله الإبداعية - يحرص على رسم لوحات تحمل التفاصيل الدقيقة.
«الجليد» تتضمن يوميات صنع الله فى موسكو بين الدراسة والحياة فى بيت الشباب، وتفاصيل الطعام والشراب والحياة، فى الاتحاد السوفيتى الذى ظل على مدى عقود ممثلا للنموذج الاشتراكى، وأكبر تطبيق للماركسية اللينينية، وطرفا فى الحرب الباردة، بالرغم من أن رواية «الجليد» لا تتضمن أحداثا درامية أو تقلبات، لكنها ترصد عالم موسكو بأجوائها الأمنية وخليط من النظام والصرامة والانقباض، وينجح صنع الله إبراهيم فى رسم صورة للاتحاد السوفيتى نموذج العالم الشيوعى، والستار الحديدى، وبالرغم من أن صنع الله شيوعى، لكنه يقدم وصفا دقيقا لعالم مقبض وبارد، كأنه بالفعل يقدم فيلما تسجيليا عن موسكو فى هذا الوقت، كرؤية لمصرى اشتراكى يقدم شهادته على عالمه المفضل، من دون أن يتخلى عن انتقاد هذا العالم.
رواية «الجليد» عمل روائى، كتبه صنع الله، ووظف فيه كل ما تعلمه عن التصوير، وإذا نحن بصدد فيلم مكتوب على الورق، وقد بدأنا نشر الرواية على حلقات، نشرنا الحلقة الأولى، وكتبت مقدمة أعلن فيها للقراء عن الرواية باحتفاء، وتم نشر الحلقة الأولى على عدة صفحات، واتصل الروائى الكبير صنع الله إبراهيم، وأبدى إعجابه بطريقة النشر، وأيضا بالرسومات المصاحبة التى قدمها الفنان أحمد خلف طايع، وتوالى النشر، وكنت فى كل حلقة أكتب «ملخص ما نشر»، على مدى أسابيع، وأشرفت بنفسى عليها وراجعت كل كلمة حتى لا تقع أى أخطاء أو هفوات، كنت سعيدا بالنشر والرواية، مستمتعا بعمل عظيم يرصد مساحة لم تكن مأهولة فى الأدب العربى، بالرغم من أن عددا من المصريين درسوا أو خاضوا نفس التجربة، لكن الجليد، نجحت فى تقديم تجربة التقط فيها صنع الله إبراهيم روح الحياة فى امبراطورية الاشتراكية المغلقة، وعالمها الغامض، وبالفعل يمكن لم يقرأ الرواية أن يعرف ويلتقط تحولات هذا العالم.
وعلى مدى الأسابيع توالت الحلقات، وكنت أتصل بالروائى الكبير، الذى كان راضيا عن النشر وعن «ملخص ما نشر» الذى كنت أكتبه بإخلاص وحب، لأننى افتتنت بالرواية أكثر من أعمال أخرى للروائى الكبير، وحصلت منها على عالم موسكو فى وقت مهم ووسط تحولات عالمية وإرهاصات متنوعة.
كانت التجربة كلها ثرية، وبقيت أصداء حواراتى مع صنع الله إبراهيم درسا فى الإخلاص الموهوب، ولم يكن هذا هو اللقاء الوحيد، فقد كنت قد التقيت الروائى الكبير فى بداية التسعينيات من القرن العشرين، أنا والصديق سعيد شعيب، كنا قد أجرينا حوارات امتدت لساعات، مع صنع الله، فى منزله بمصر الجديدة حيث كان يسكن فى الدور السادس، وكنت أعرف المنطقة التى كان يسكن فيها، بالجانب الآخر من الشارع خالى محمد جاويش، وكنت أزوره كثيرا، ولهذا عرفت المكان والذى كنا نذهب له بمترو عبدالعزيز فهمى، من رمسيس، وننزل محطة المحكمة، ومنها نمشى إلى منزل صنع الله إبراهيم، وامتدت بيننا الأحاديث، والتى نشرناها فى «اليوم» السعودية، وصحف عربية مختلفة حيث كنا نعمل، وبعضها نشر فى «العربى» وقتها.
وعندما التقيت الروائى الكبير صنع الله إبراهيم، كان لا يزال يتذكر أحاديثنا معه، أنا والصديق سعيد شعيب، واستمرت اتصالاتى بالأديب الكبير بعد نشر الرواية، والتى تمثل بالنسبة لى محطة مهمة، فى التعرف على أعمال صنع الله، وبالطبع قرأت أعماله، ومنها «شرف» وكتبت عنها فى الإصدار الأول لـ«الدستور»، برئاسة تحرير إبراهيم عيسى، وكان يشرف على صفحة الثقافة الصديق حمدى عبدالرحيم.
رحل «صنع الله» وبقيت سيرته وإبداعاته وأحاديث ولقاءات لا تنتهى، ومنها لقاء لا ينسى.


Trending Plus