جنازة فى ضوء نجمة أغسطس.. رحيل صنايعى الحكى والضمير آخر عناقيد أدباء السرد فى جيل الستينيات.. "صنع الله إبراهيم" سيرة عقل صاخب وقلم وقور وروح حملت آمال مجتمع كامل

افتتح مسيرته بكتاب «إنسان السد العالى» فى العام 1967، متتبعا سيرة الهامش فى قلب حدث كان فارقًا لبلد بكامله على كل المقاييس، وطوال السنوات التالية ظلّ ضميرًا مُتّقدًا، وقلما يتجاوز صنعة الحكايات إلى فلسفة الوجود واتخاذ موقف صريح من العالم، ويترجل اليوم فى أغسطس، الذى استعار اسمه فى واحدة من روائعه، رواية «نجمة أغسطس»، ليختط آخر سطر فى مسيرة كاتب كبير؛ بل يصح الاهتداء بأول أعماله للقول إنه بحق «إنسان الأدب العالى».
رحل صنع الله إبراهيم، الكاتب الذى لم يكن مجرد روائى يخط حكايات على الورق، بل ضمير ثقافى ظل يقرأ المجتمع كما يقرأ نصًا مفتوحًا، يلاحق تفاصيله ويعيد صياغتها بحس ناقد ووعى وطنى راسخ، على امتداد أكثر من نصف قرن، كانت رواياته أشبه بمحاضر تحقيق أدبية فى قضايا السياسة والاجتماع والهوية، تفتح ملفات مسكوت عنها وتربط الخاص بالعام، والإنسانى بالوطنى.
فى زمن اختلط فيه الأدب بالمجاملات، ظل الروائى الكبير صنع الله إبراهيم وفيًا لقلمه ومبادئه، أعماله مثل شرف وذات واللجنة ونجمة أغسطس وبيروت بيروت لم تكن مجرد روايات، بل شهادات زمن، تكشف الفساد، تفضح القمع، وتؤرخ للتحولات الكبرى التى عاشتها مصر والمنطقة، وقد رفض فى 2003 تسلم جائزة ملتقى الرواية من المجلس الأعلى للثقافة، ليؤكد أن استقلال المبدع أثمن من أى تكريم.
لم يكن صنع الله يكتب من برج عاجى، بل كان حاضرًا فى قلب القضايا الوطنية، رأى فى ثورة 30 يونيو انتفاضة شعبية حقيقية، واعتبر أن السلطة العسكرية حين تعمل لصالح الشعب لا تُدان، بل تساند، كما دعم ترشح الرئيس عبدالفتاح السيسى، لأنه شخصية وطنية تملك القدرة على تحدى أمريكا والغرب لأول مرة منذ عهد عبدالناصر.
ترك صنع الله إبراهيم مكتبة كاملة من النصوص التى ستظل تروى سيرته وأفكاره، رحل الجسد، لكن بقى الكاتب الذى علّمنا أن الرواية يمكن أن تكون سلاحًا، وأن المثقف حين ينحاز للحق، يصبح شاهدًا وأرشيفًا وضميرًا لجيل بأكمله.
مقاتل على جبهة الأدب
ليس وجها عابرا ولا سيرة عادية، من أوّل الاسم المميز وغير التقليدى، مرورا برحلة إبداعية باذخة منذ أواسط الستينيات، وإلى الرحيل الأخير بعد معاناة مع المرض، أرّخ صنع الله إبراهيم لكثير من المفاصل والتحولات الاجتماعية والسياسية لمصر والمنطقة، ويُمكن أن يُؤرّخ به شخصيا لسيرة بلد وأمة، وما كان من آمال وأحلام كبرت فى الصدور، وتعثّرت إزاء التحديات وتنازع القوى الفاعلة على امتداد خرائط الجغرافيا والفكر.
رأى صنع الله فى الحياة السياسة والاجتماعية
لقد قال الروائى الكبير خلال إحدى حواراته مع «اليوم السابع»، إن تحقيق الاستقلال الوطنى والعدالة الاجتماعية قضيتان لن تحلا فى ليلة وضحاها، وعلينا أن نتحلى بالصبر، فهناك مؤشرات إيجابية مثل تنويع مصادر السلاح، وإعادة العلاقات مع روسيا، ومشروع تطوير هيئة قناة السويس، وهناك أيضا مؤشرات سلبية وهى الخضوع للضغط الأمريكى الإسرائيلى من جانب والموضوع معقد وليس بسيطا كما نتصور.
أقرب كتابات الروائى الكبير إلى نفسه
كشف صنع الله إبراهيم أن أقرب أعماله إلى نفسه، «التلصص وأمريكانلى وشرف»، مؤكدًا أن كل واحدة لها ظروفها وكلها جزء منى وكتاب شرف، مضيفًا «بالمناسبة تم اشتراكى مع مخرج مصرى مقيم بألمانيا بعمل سيناريو كفيلم سينمائى لشرف، وقدرنا نجيب منتج، واتفقنا مع محمد حفظى، ولكن انسحبت الشركة المنتجة فى آخر لحظة».
قصة اسم «صنع الله»
عندما طرح عليه سؤال ما قصة تسميتكم بـ«صنع الله»، عبر حواره مع «اليوم السابع»، ضحك كثيرًا، وقال: عند ولادتى كان والدى يبلغ الستين من العمر وقام بصلاة استخارة ثم فتح المصحف فوضع أصابعه على كلمة «صنع الله الذى أحسن كل شىء»، ومن هنا تمت تسميتى بصنع الله، ولكن هذا سبب لى مشاكل كثيرة، فعندما كنت فى المدرسة لأنه كان اسما غريبا، كان دائما مسار «فقاقة» للناس، فأذكر أن المدرس كان يقول لى «صنع الله؟ ما كلنا صنع الله»، والبعض يتصور فى السنوات الأخيرة لما حدث المد الدينى بدأت الناس تسألنى إذا كنت مسيحيا أم مسلما، ولكنى أرفض الإجابة على هذا السؤال وأقول أنا قبطى بمعنى «مصرى».
جماعة الإخوان المحظورة
يقول الروائى الكبير صنع الله إبراهيم إلى أن التنظيم الخاص لجماعة الإخوان المحظورة يقوم على منهج الاغتيالات مشددًا على أنه يجب استئصال الجماعة نهائياً.
ويضيف هى جماعة إرهابية غير وطنية لا تهتم إلا بالتنظيم الدولى، وليس لها انتماء لمصر، وهذا ما أثبتته تجربة حكمهم، لذا فمن الضرورى حظر هذه الجماعة وحظر تكوين أى أحزاب على أساس دينى، والعمل على التوعية السياسية والثقافية يبدأ من المرحلة المدرسية وتحقيق العدالة الاجتماعية التى لم تتحقق حتى هذه اللحظة.
فأصبح معروفا لكل الناس طبيعة هذه الجماعة وكيف بدأت فى 1928 ودور المخابرات الإنجليزية فى تكوينها، وكان الهدف هو ضرب النفوذ الشعبى لحزب الوفد، واستمر هذا الأمر، وتبين وجود اتصال بين الهضيبى مرشد الجماعة وقتها وبين المخابرات الإنجليزية فى 1954 بعد الثورة، وهم أدخلوا العنف بالسلاح فى الحركة السياسية، وكان شيئا جديدا على النشاط السياسى المصرى، ولجوؤهم إلى العنف عدة مرات يتمثل فى قتلهم القاضى أحمد الخازندار فى عام 1948 واغتيل رئيس الوزراء محمود فهمى النقراشى فى 28 ديسمبر 1948 فى القاهرة ومحاولة اغتيال جمال عبدالناصر، وفى سنة 1965 كانت الجريمة الكبرى والآثمة هى محاولة اغتيال عبدالناصر للمرة الثانية بزرع متفجرات له على طول الطريق وخرج من الجماعة أيضا العديد من التيارات الدينية كلها تؤمن بالعنف.
صنع الله إبراهيم يعتزل السجائر عند الكتابة
كثير من الكتاب والمثقفين يتبعون طقوسا معينة حال شروعهم فى الكتابة، وذلك حتى يستطيعوا أن يسيطروا على إلهامهم، وقد كان الروائى صنع الله إبراهيم يقول: أنا لدى عادة عند بدايتى فى كتابة أى رواية جديدة، وهى أن أستيقظ مبكراً وأشرب النسكافيه، وأعتزل شرب السجائر أثناء الكتابة، وأبدأ فى الكتابة، لمدة ساعتين فقط. ومن ناحيه أخرى لم يستطع الكاتب أوسكار وايلد الكتابة إلا بعد تزيين غرفته بريش الطواويس.
ماذا قال عن ثورة 30 يونيو؟
هى انتفاضة شعبية كبيرة ومن يرَ غير ذلك فهو خاطئ، والفيصل هنا هو هل تعمل هذه السلطة لصالح الشعب أم ضده، والإجابة نعم، السلطة العسكرية تعمل لصالح الشعب، إذا ليس هناك مشكلة.
تعليقه عندما طالب الشعب بترشيح عبدالفتاح السيسى للرئاسة
تدخله ممتاز، وهو ما تؤكده خطاباته التى تتميز بالدقة والنظرة العلمية والبعد عن الترهل فى الكلمات، فهو محدد وموضوعى، وأعتقد أنه مكسب للحياة السياسية المصرية، وأعتقد أن هذا ما دفع كثيرا من المصريين لفكرة ترشيح السيسى لانتخابات الرئاسة، وأنا من وجهة نظرى أرى أن هذا حق أصيل له، فمن حق أى إنسان أن يسعى لكسب الشعب فما بالك برجل يقترب يوميا من المصريين، ويسعى دائما بما يمتلك من سلطات قانونية إلى تنفيذ مطالب هذا الشعب والوقوف بجانبه، ويكفى أنه لأول مرة منذ عهد جمال عبدالناصر يأتى تحدٍ لأمريكا ودول الغرب، والفضل يرجع للفريق أول عبدالفتاح السيسى، وهو يكشف عن شخصيته الوطنية، وأنا معه قلبا وقالبا الآن.
آخر قراءات صنع الله إبراهيم
وقبل أن يرحل، كان صنع الله إبراهيم يقرأ كتابًا لم يكن مجرد صفحات تتحرك بين يديه، بل رحلة تاريخية تغوص فى عمق المعاناة الإنسانية، وتستحضر ذاكرة العبودية فى أمريكا وهى رواية «نسب» للكاتبة أوكتافيا بتلر.
فى حواره الأخير مع «اليوم السابع»، قبل أن يدخل فى دوامة المرض، أخبرنا أنه يقرأ الآن رواية «نسب» للكاتبة الأمريكية أوكتافيا بتلر، بترجمة الفلسطينية منى كريم، ولم يكن الأمر مجرد تسلية أو قراءة عابرة، بل غوص فى عمل أدبى قضت مؤلفته عشر سنوات فى بنائه، بين مذكرات العبيد والوثائق الرسمية وأرشيف الجمعيات التاريخية، وحتى زيارات ميدانية لولاية ماريلاند، حيث دارت أحداث الرواية.
كان يتحدث عنها بحماس وكأنها نافذة مفتوحة على التاريخ الإنسانى بكل ما فيه من جروح وأوجاع، وربما كان فى تلك اللحظة يرى تشابهًا بين رحلة شخصيات الرواية فى مواجهة القهر، ورحلته هو نفسه فى مواجهة المرض.
ورغم تراجع صحته، ظل وفياً لعادته القديمة قراءة أعمال الشباب الذين يرسلون له كتبهم، وإبداء رأيه بصراحة، مؤمنًا أن الأدب لا يعيش إلا إذا تواصلت الأجيال.
وقد طوى صنع الله إبراهيم صفحته الأخيرة، تاركًا وراءه مكتبة من النصوص التى ستظل حية، تمامًا كما ستظل رواية «نسب» آخر أثر فى ذاكرة قراءته، شاهدة على شغفه بالمعرفة حتى اللحظة الأخيرة.
وزير الثقافة
نعى الدكتور أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة، ببالغ الحزن والأسى، الكاتب والأديب الكبير صنع الله إبراهيم، التى ترك إرثا أدبيا وإنسانيا سيظل خالدًا وحاضرًا فى وجدان الثقافة المصرية والعربية.
وأكد وزير الثقافة، أن الراحل مثّل أحد أعمدة السرد العربى المعاصر، وامتازت أعماله بالعمق فى الرؤية، مع التزامه الدائم بقضايا الوطن والإنسان، وهو ما جعله مثالًا للمبدع الذى جمع بين الحس الإبداعى والوعى النقدى.
وأضاف أن فقدان صنع الله إبراهيم خسارة كبيرة للساحة الأدبية، فقد قدّم عبر مسيرته الطويلة أعمالًا روائية وقصصية أصبحت علامات مضيئة فى المكتبة العربية، كما أثّر فى أجيال من الكُتّاب والمبدعين.
أشرف العشماوى
صنع الله إبراهيم ليس روائيا قديرا فقط، بل مؤرخ بديل، يوثق المسكوت عنه فى يوميات الشعوب، ولا أبالغ إن قلت لم يكتب الرواية بقدر ما أعاد تعريفها، فمنذ ستينيات القرن الماضى وحتى اليوم، ظل هذا الكاتب العنيد يسير عكس التيار، متسلحًا بوعى حاد وثقافة رفيعة، وإيمان لا يتزعزع بدور الأدب فى فضح الزيف وكشف ما يراد له أن ينسى، لم تكن الرواية عنده حكاية تروى، بل وثيقة تقاوم وتكشف، إن أهمية صنع الله إبراهيم لا تكمن فقط فى ما كتبه، بل فى الكيفية التى كتب بها، فقد مزج الوثيقة بالخيال ببراعة، واليومى بالتحليلى، راسما حدودًا جديدة لما يمكن أن تفعله الرواية فى مواجهة السلطة، لا بوصفها حاكما فقط، بل بوصفها منظومة متكاملة من الإعلام، والسياسة، والاقتصاد، والثقافة.

p

Trending Plus