لماذا نحتاج إلى الثقافة (19).. النشر بين الصنعة والصناعة

تحتاج صناعة النشر فى مصر والوطن العربى إلى وقفة جادة لتعديل طريقة التعامل قانونيا وحكوميا معها، حيث لا يمكن النظر إلى الكتاب بوصفه – فقط - الوعاء الأساسى للمعرفة، فقد تطورت الأمور في العقود الأخيرة بحيث أصبح واحدا من الأدوات المهمة للتطور، واستدامة التنمية في المجتمعات كافة، ولذلك فإن القضايا التي تتعلق بالكتاب هي قضايا في ذاتها متعددة المحاور ولا نغالي إذا قلنا إنها تؤثر على كل قطاعات المجتمع، حتى تلك التي لا تعلم أنها تتأثر به بصورة مباشرة، وهو الأمر الذي يجعل الحديث عن قضايا النشر حديثا يتعلق بالاقتصاد والصناعة والتنمية، بقدر ما يتعلق بالثقافة والعلم سواء بسواء.
إن أي مناقشة حول صناعة الكتاب العربي سوف يتبين منها ذلك النقص الحاد في المعلومات المتاحة حول ما ننشره وما نقرأه عددا واتجاهات، وأننا لا نملك بيانات واضحة عن كل ما يتعلق بهذا المجال، وهذا النقص ذاته يمكنه أن يكون عاملا مهما في الوقوف أمام الاعتراف بالنشر العربي بوصفه صناعة مكتملة الأركان، بل يبقى (صنعة) تعتمد على مهارة فردية لمن يعمل بها، وهو الأمر الذي يفقدها منهجية الصناعة والدراسة الحقيقية الجادة للمتلقي المستهدف على نطاق واسع.
وحتى الإحصائيات التي تقع بمحض المصادفة بين أيدينا هى إحصائيات يشوبها عدم الدقة فى كثير من الأحيان، التى ترقى أحيانا إلى مرتبة الشك فى مصداقيتها، فمرة تقع مصر فى المرتبة الخامسة عالميا من حيث معدلات القراءة، وأخرى نجد المواطن المصرى لا يقرأ سوى دقائق معدودة فى العام، ومرة نجد بيان النشر المصرى الدورى يحتوى كل عام على ما يقرب من عشرين ألف عنوان سنويا، وبالفحص نجد منها عناوين مكررة أو تراثية أو تعليمية أو غيرها، بما يجعل العناوين الجديدة لا تمثل أكثر من خمس المنشور، وكأن الأمر يظل داخل مربع إعادة إنتاج الماضي، وبالجملة فإن سوق النشر المصري، بل العربي، لا يمكن تقدير حجمه الاقتصادي حتى بشكل تقريبي، وهو الأمر الذي يجعل من إمكانيات تطوير هذه السوق حلما بعيدا.
وإذا كان من الضروري اعتبار مسألة النشر مسألة تتعلق بالأمن القومي، فإن وجوب التفكير في تطوير هذه العملية يستوجب النظر للقوانين المنظمة لها بصورة أكثر منهجية، بحيث يتم تعديلها، ومنها قانون اتحاد الناشرين، وقوانين الملكية الفكرية، وقوانين تنظيم استيراد وتصدير الكتب ومستلزمات إنتاجها، وتوحيد كل ذلك فيما يمكن اعتباره قانونا موحدا لصناعة النشر، والذي يجب أن يركز على تنظيم العاملين بهذا المجال، وتقسيم فئاتهم، ليكون لدينا في النهاية صناعة نشر متكاملة الأركان يمكن الاعتماد عليها في تنمية المجتمع ثقافيا، بالقدر نفسه الذي يمكن تطويره اقتصاديا، وبحيث يكون لدينا صناعة قوية وقادرة على الوصول إلى هذه المرحلة، بشرط توفر الإرادة وتوحيد القوى، وهو حلم لا يبدو بعيدا، خاصة مع تطور صناعة معارض الكتب العربية ولو أنها مازالت تعامل نفسها بوصفها سوقا لبيع الكتاب، وتظل الفعاليات المهنية على هامشها مجرد هامش حتى الآن، ومع تطور التفكير في النشر الإلكتروني ولو كان مجرد تفكير لم يرق على مستوى المؤسسات الرسمية إلى كونه ركنا من أركان صناعة النشر، غير أن الباب مازال مفتوحا للتعامل مع النشر بوصفه صناعة حقيقية مكتملة الأركان، على المستوى الرسمي والقانوني والاقتصادي ليمكن أن تصبح موردا اقتصاديا قوميا.

Trending Plus