صناع الحضارة.. عبد الهادى الجزار وجوه متعددة للإبداع.. 41 عاما عمره على الأرض.. كتاب "عاشق من الجن" يرصد مراحل مهمة من حياته.. إيناس الهندي: كان شعلة من النشاط يرسم ويعزف ويغنى ويكتب الأشعار ويتلو القرآن

أحمد إبراهيم الشريف

الكتاب يرصد علاقة الفنان ببناته وكيف كان يحكى لهن ويرسم لهن القصص


وكيف تغيرت حياته بعدما التقى بـ حسين يوسف أمين.. ولماذا أطلق عليه الأخير "فنان القواقع"؟


وحكايته مع الشعر والزجل وكيف خاض مناظرات شعريَّة بينه وبين تلميذه صلاح جاهين

 

تملك مصر رصيدًا كبيرا من الحضارة، ومن صناعها، وذلك ليس مقصورًا على العصور السابقة، بل هو أمر دائم ومستمر، ومن هؤلاء الفنان الكبير عبد الهادى الجزار، الذى نحتفل بمئوية ميلاده، فهو من مواليد شهر مارس 1925، وعلى الرغم من وفاته المبكرة فى مارس 1966، أى أنه لم يقض على هذه الأرض إلا نحو 41 عاما، إلا أنه ظل علامة بارزة وصانعا كبيرا من صناع الحضارة المصرية.


ومن الذين اهتموا بالفنان عبد الهادى الجزار وقدموا عنه الدراسات والكتب الدكتورة الفنانة إيناس الهندي، التى قدمت عنه كتابين هما "عبد الهادى الجزار: قراءة فى وجدان شعب" و"عاشق من الجن: قراءة فى سيرة عبد الهادى الجزار" وهذا الكتاب الأخير صادر عن دار هن، وسنتوقف معه لنلقى عليه نظرة مطولة ونتعرف على هذا الفنان الذى يحمل روح مصر فى داخله.

تسجيلات صوتية ومقتنيات تكشف "عبقرية" الجزار
 

فى البداية نقول إنه لا يخفى على أحد إعجاب الدكتورة إيناس الهندى بفن وشخصية الجزار وكيف أنها تتبعته بمحبة خالصة وحصلت على وثائق ومخطوطات واطلعت على مقتنيات الفنان الكبير، وذلك من خلال أسرته، وهذه المقتنيات كشفت لنا جانبا إنسانيا وفكريا وشعوريا نستطيع من خلاله أن نفهم الكثير عن الجزار وإبداعه.

تقول الفنانة إيناس الهندى فى محاولة لاختصار شخصية عبد الهادى الجزاء، إنه نموذج لمقاومة الموت بالفن، وعدم الاستسلام للإحساس الزاحف المدمر، هذا الإنسان الهادئ والانفعالى فى نفس اللحظة، والكتوم الذى يصرح للورق بكل ما فى داخله سواء بالرسم أو الكتابة، يملأ الدنيا صخبًا وهو يعتز بنفسه وبسكندريته أيّما اعتزاز".


إن هذا المشهد التقديمى بمثابة مفتاح يكشف لنا شخصية الفنان، والذى تؤكد الدكتورة إيناس أنه ليس بالأمر الانطباعى لكن ذلك نتيجة تسجيلات بصوته وكتابات بخط يده، منها مثلا أنه يقرأ ويحكى لبناته قصصًا، ويقوم بتحفيظهن القرآن.

عاشق من الجن
غلاف كتاب عاشق من الجن

 

ومما يستوقفنا فى الكتاب قول الهندى أنه حين تسمع صوت الجزار يتلو القرآن، تأخذك الرهبة وتستشعر أنك انتقلت إلى مكانٍ آخر، عميق، بعيد، يتعلق قلبك بالصوت، وتتوقف أنفاسك مع توقفه، صوت قوى مليء بالشجن، يتلو آياتٍ من سورة الإسراء فى تسجيل خاص للعائلة، وحين تنتقل إلى تسجيل آخِر تجده يُحفِّظ بناته سورة الفاتحة وسط جو أسرى دافئ مُفعم بالبهجة.

علاقة عبد الهادي الجزار بـ بناته.. قراءة ورسم وتعليم

ويلقى الكتاب الضوء على جانب مهم من علاقة الفنان ببناته فقد كان يرسم قصصًا يرويها لبناته، كما أنه قام بتحويل المثل والقيم إلى حواديت يحكيها لأطفاله ويرسمها أيضًا أمامهن، يحكى ويرسم ويمرح معهن وكأنه كان يعرف أنه يجب عليه أن يترك لهن عالمًا منسوجًا بيديه ووجدانه؛ لأنه سوف يُفارقهن قريبًا.

وتقول إيناس الهندى "أما حين تسمع الجزار وهو يعزف العود ويغنى فتلك حالة أخرى، يغنى أغنية عبد الوهاب "أيظن"، ولكن بصوت أرخم وأعذب، تحسبه لأول وهلة محمد عبد الوهاب إلا أنك تُميِّز قوة الصوت وعذوبته فى صوت الجزار ومخارج الألفاظ الواضحة السليمة والأداء المُتميز الواثق، وما لا يعرفه أحد أنَّ الجزَّار نجح فى اختبارات شركة "المكتب الشرقى للتسجيلات الفنية" وخاطبوه لكى يحضر ويقوم بتسجيل حفلة، ولكن قبل ذلك يسجل أسطوانة من أغانٍ خاصة به ليُغنيها فى هذا الحفل، وذلك عام 1953، إلَّا أنه لم يمضِ فى هذا الاتجاه رغم براعته واكتفى بالرسم.

أبو السباع
أبو السباع

 

ما أخذه عبد الهادي الجزار من دراسته في كلية الطب


‏وترى إيناس الهندى أن شهور الدراسة فى كلية الطب (درس فى كلية الطب ثم تركها 1944) صنعت فارقًا جوهريًّا بين الفنان الدارس للفن، والدارس للطب، فالأول يحاول صنع الجمال بمعادلة خاصة به، والثانى يصنع الجمال بتشريح الواقع مُباشرةً، يرصد جميع التفاصيل، ويصنع منها نسيجًا إنسانيًّا لقضايا وجوديَّة، تبدو صادمة لكنها تعكس جوهر الحقائق وليس ظاهرها، عقل الطبيب يعمل بشكل أسرع وأعقد وقادر على استيعاب كم أكبر من المعلومات، هو مُدرَّبٌ أيضًا على إدارة الأزمات وسرعة التَّصرف، واستنتاج المشكلة من المُعطيات الظاهرة والخفيَّة ليقوم بتشخيص المرض ويصف العلاج.

تاريخ الميلاد.. الحقيقي والرسمي

ويلقى الكتاب الضوء على جانب مهم من حياة الجزار يتعلق بنشأته، فيقول "إذا عدنا إلى يوم ميلاد الجزَّار فنجد أنَّ المراجع اختلفت فى تحديد تاريخ مولده، وتمَّ الرجوع للعائلة والوثائق للتصحيح، فكان يوم الميلاد هو 14 مارس من واقع أوراق والد عبد الهادى الجزَّار وأمَّا الأوراق الرسميَّة فكان يوم التسجيل هو 23 مارس 1925، فى حى الشيخ الورع زاهد الإسكندرية محمد بن المنصور بن يحيى القبارى السكندري، الذى يقع فى غرب الإسكندرية، هذه المدينة التى مرَّ عليها الإسكندر واختارها لتحمل اسمه وهو فى طريقه إلى سيوة وتقديمه القرابين بمعبد آمون ليصبح ابن الإله، والتى بناها قبل وفاته بشهور، هناك ُلد الفنان وقضى طفولته، وشأن كل فنان حقيقى نجده يسعى لتحقيق أسطورته الخاصة وفق قناعاته التى تكوَّنت على مر السنوات، إلى أن يتحوَّل الفنان نفسه إلى أسطورة، والأسطورة لا تموت.

المجنون الأخضر
المجنون الأخضر

 

وتنتقل إيناس الهندى إلى فن الجزار فتقول "إنَّ المُشَاهِدَ للوحات الجزَّار للمرَّة الأولى يقع فى حيرة ما بين إحساسين من الصدمة والانجذاب؛ الصدمة تحدث من طريقة المُعالجة للموضوع هذا الأسلوب طور الجزار فيه نفسه بسرعة شديدة؛ نتيجة شغفه بالرسم منذ طفولته واشتراكه فى العديد من المسابقات إلى أن قابل المعلم الذى وجَّهَهُ لتعاليم الفن، ودعَّمه وسانده وآمن بموهبته، إنه حسين يوسف أمين (رائد من رواد حركة الفن المصرى الحديث فى القرن العشرين) الذى كان له الدور الكبير فى توجيه عقل ووجدان الجزَّار وضمَّه إلى جماعة الفن المُعاصر.

وتعلق إيناس الهندي أنه منذ رسوماته الأولى ونحن نشهد أنه لا يُريد أن يترك أى شيء، يريد أن يقول كل شيء، ويقوله بالفعل ولكن بطريقة تبدو عفويَّة وحيويَّة للغاية، ولكنه يلتزم فى نفس الوقت بقواعد التكوين المُتناسقة المُتناغمة جيدًا والمليئة بالجرأة، تلك هى رسومات فناننا الفريد فى موهبته يهتم بدراسة الشخصيَّة، محلل نفسي، قادر على مواجهة تحليلات العقل الباطن.

ويتوقف الكتاب عند تحليل رؤية الجزار فيرى أنه يحمل فى لوحاته - كما فى شعره - هَمَّ تحليل نفسية الموديل الذى يرسمه، اهتم بالتركيز على اختلاف درجات الألوان الغريبة والمستوحاة - ولكن بمهارة شديدة - من دفء الحياة الشعبيَّة، نعم عبد الهادى الجزَّار خلق جوًّا مُناسبًا لموضوعاته، فهو يعتقد بشدة فى الأساطير الشعبيَّة، حتى أنَّ الرسم بالنسبة له يختلط دائمًا مع أهدافه ومُعتقداته ومهنته، وأفكاره ما زالت خطيرة مُتأثرة بالحنين الغريب والعمق الشديد الغامر، ووصل الجزَّار بأعماله إلى ما يُمكن أن نُسميه الإنسانيَّة الشرقيَّة المصبوغة بالذكريات الغريبة، والتى أوحتها إليه الفلسفة الصوفيَّة للشعوب الإسلاميَّة، هكذا رآه "إيميه آزار".

حفر قناة السويس
حفر قناة السويس

 

ويتابع الكتاب، لا يمكن حين نتناول الجزَّار أن نسير حسب خوارزمية مُحدَّدة، فللجزار خوارزميته الخاصة، فهو يعمد إلى تحليل الدوافع، والعقائد، والغرائز، والعادات، وعلاقتها بحياتنا الاجتماعيَّة فى مُعالجة استشفها من مُمارسات السحر التى يعتقد فيها العامة، ولوحات الجزَّار تتخطى حاجز الزمن وتتخطى حاجز المسافة بسبب الشحنة الثوريَّة وإحساسه بالمسئولية،  إنَّ الجزَّار لم يخلق عالمًا يراه هو ويشعر به فى داخله وفى عقله ووجدانه فيُخرِجه لنا مُجسدًا فى لوحات أو أبياتٍ مُتناثرة، حتى وإن خرجت فى صورة بسيطة مفهومة، إلَّا أنَّ وراءها الكثير من الفكر والاختزال حتى يضعها فى تلك الصورة التى نُحاول فك شفرتها بعد رحيله، ورغم الهدوء الظاهر إلَّا أنَّ قلبه يحمل كل الثورة والحيويَّة رغم الوهن.

ويتساءل الكتاب: كيف صنع الجزَّار هذه المُعادلة المُعقدة بين ما هو عقلانى جدًّا وما هو وجدانى صرف؟


ويجيب: هذا الباحث عن الحقيقة فى اتزان محسوب فى الطبيعة وما وراء الطبيعة، دائم البحث عن حلول جديدة للتكوين والتقنية والفكرة، كل شيء مُرتب فى حياة الجزَّار ترتيبًا صارمًا يخضع لميزان دقيق؛ لاستغلال كل دقيقة من وقته فى الدراسة والعلم والفن والعائلة، كل شيء محسوب، عقله مُرتب جدًّا يُقسِّم وقته، ويتعلِّم لغة أو يُشاهد معرضًا، فى كل لحظة حدث خطَّط له فى جدول، يكتب الرسائل الطويلة ويرسل الكروت البريديَّة، يحكى كلَّ شيء إلى رفيقة عمره وعشقه وزوجته الحبيبة "ليلى عفت" يبثُّها أجمل المشاعر وأنقاها، تخفى هذه الرسائل حتى الآن، أتساءل دومًا متى تستطيع أن تنشر رسائل هادى لها؟ رُبَّما تقتنع بذلك ذات يوم؟

دنيا المحبة
دنيا المحبة


مرة أخرى يعود الكتاب إلى نشأة عبد الهادي الجزار، فيقول "عبد الهادى كان الخامس فى ترتيبه بين إخوته: (زينب - أمينة - نفيسة - عبد الوهاب - عبد الهادى – فتحية – محمد - نزيهة)، عائلة الجزَّار كان لها نصيب كبير من اهتمامه، فالأب الذى كان يعمل مُدرسًا بمعهد الإسكندرية الديني، قد انتقل للتدريس فى جامعة الأزهر، وحينها انتقلت العائلة إلى رحاب السيدة زينب ثمَّ إلى المنيل، هذا الأب له مؤلفات عبارة عن مجموعة رسائل دينيَّة منها الذخيرة فى تفسير القرآن، وله مؤلفات عبارة عن مجموعة رسائل دينيَّة وعلميَّة كانت تُوزع مجانًا.

عبد الهادي الجزار شخصية متمردة وملتزمة

ويقول الكتاب: لقد تميَّز الجزَّار منذ البداية بشخصية مُستقلة مُتمردة على قيود الأكاديميَّة، وقد كان من الأفضل تتبُّع الأعمال والتعليق عليها وفضُّ الاشتباك بين الأبعاد التى أثَّرت فى شخصية الفنان، لقد كان الجزَّار حريصًا على تقسيم وتنظيم مراحل العمل الفني، وقد ذكر هذا التقسيم فى مُذكراته الشخصيَّة: العمل الفنى ينقسم إلى ثلاث مراحل: الأولى الرؤيا السريعة أو فهم الشيء، الثانية استجابة الإحساس لهذا الشيء المفهوم، الثالثة استجابة المُتفرِّج لمحتويات العمل الفني.

ذن من طين و اذن من عجين
ذن من طين و اذن من عجين

 

أما عن رأى الجزَّار فى ألوانه فيقول: "لا توجد ألوان مُفضَّلة عندى فى مراحل الإنتاج المُختلفة، ولكن توجد ألوان تختلف باختلاف الحالة المُراد التعبير عنها، ومعنى ذلك أنَّ الألوان مثل العناصر الموجودة بالصورة، وكما أنَّ العلاقة بين هذه العناصر المُكمِّلة لبعضها هى علاقة سيكولوجيَّة فكذلك الألوان، فكل لون داخل مساحة أو كل لون يأخذ شكل العنصر هو مُكمل لمعنى العنصر فى حد ذاته، ومُكمل لمجموع الألوان والعناصر فى الصورة ... وعلى العموم فالألوان المسيطرة فى جميع مراحل إنتاجى هى اللون الأخضر والأحمر والأزرق، وهى الألوان الشائعة فى الحياة الشعبيَّة، فاللون الأخضر يُمثل الدين، كما أنه من الناحية التعبيريَّة هو رمز الهستيريا والجنون (كما فى صورة المجنون الأخضر– 1951)، واللون الأحمر هو رمز للحالة الديناميكيَّة والثورة، كما أنَّ الألوان المُحايدة هى رمز للاطمئنان.

زوجة الفنان عبد الهادي الجزار
زوجة الفنان عبد الهادي الجزار

 

عبد الهادي الجزار .. فنان القواقع


لقد أخذ الجزَّار يُراجع تاريخ الإنسانيَّة ونشأة الحياة، فراح يصوِّر الشخصيات وهى تخرج من الأرض ومن البحر ومن القوقعة ومن البئر؛ ولهذا أطلق عليه أستاذه "فنان القواقع"، ولم يكن هذا هو السبب فى تسمية "حسين يوسف أمين" للجزار بهذه التسمية، ولكن لكون الجزَّار مؤمنًا بشدة بأنَّ القوقعة هى سر الحياة، وكتاباته التى وجدتُها فى مُذكراته تدل على شغفه بها لدرجة الهروب من العالم الخارجي، والراحة بداخلها فى مدينة خاصة بها، و"مدينة القواقع" هى بيت اصطنعه الجزَّار لنفسه بين أحضان الطبيعة، ليعود إلى عالم بكر فى كل شيء، ونظرية خلق الكون وتفسيره لها كيف كانت البداية، نسج هذا العالم وأسماه مدينة القواقع، وصنع شخصيات مُختلفة: أبطالًا وأدوارًا ثانوية.

لم يعمد الجزَّار إلى تشويه الإنسان، وإنما محاولة إظهار ما بداخله أو رؤيته الخاصة لحقيقته، لقد استخدم الجزَّار الشخصيات الغارقة فى الجو الأسطورى كوسيلة للتعبير عن أحاسيسه، ويشير بها إلى المجهول الذى يؤرِّقه، وكان مُتعاطفًا معها، لقد صور العائلات التى تكسب عيشها بالسحر والشعوذة وقراءة الطالع والهروب من الواقع.
كما يضيف الجزَّار محللًا الغموض فى أعماله، ولماذا اتجه إليه: إنَّ الغموض فى إنتاجى يحوى خلال تلك الأعمال التحليل -لأنَّ الحياة الشعبيَّة هى ذلك القالب الذى أفرغ فيه ذاتى لتتخذ ذلك الشكل الجديد- ليس فيه الوصف الصحفى أو السينمائي، وإنما هو تحطيم الواقع إلى جزيئات وهذه الجزيئات تتخذ داخل الذات الخالقة لتبنى نوعًا جديدً.

شواف الطالع
شواف الطالع

 

كما أن أعمال الجزار ليست من تلك الأعمال التى تبعث على الشجن بقدر معتدل، فالانفعالات مُتضاربة، لها طابع قوى يترك أثرًا فى النفس، وهو لم يعمد إلى ذلك فأعماله مثله تترك أثرًا واضحًا لا يُمحى، أثرًا قويًّا مثل مواقفه الواضحة غير القابلة للمواربة.
وهو يستعرض كل تلك التراجيديا فى هدوء خارجى يزيد من جلال أعماله التى تصدم فى هدوء، وتكشف الواقع أمام المُشاهِد فى حقيقته العارية من كل زَيْفٍ، ويعرض علينا مأساة الواقع مثلما يعرضها المسرح التراجيدي، بكل تلك العواطف الصاخبة والأفكار المُعقدة والتلخيص فى صدق صادم لواقع الحياة، وذلك يترك فى نفوسنا مشاعر مُختلفة مُعقدة.
كان الجزَّار يطبق قانون الكون فى فهم الظواهر، فكان يرسم الأشياء من الداخل إلى الخارج وتلك كانت طريقته فى رؤية الأشياء، أى أنه يرسم الجوهر دون المظاهر ويبدأ من الصغير للكبير، أى من الذرة إلى المجرة، كذلك لم يكن يسجل واقع الحياة الشعبيَّة من خلال وجهة نظر غريبة عنها وبعيدة، أو من الظواهر الخارجية فقط، وإنما كان يُعايِش تلك الطبقة بشكل قريبٍ، ‫ وكان يذهب إلى المجتمعات الشعبية بالأيام يمكث معهم يرصد كل تفاصيل حياتهم.

عمل فني
عمل فني

 

بعيدا عن الرسم.. الإبداع في حياة عبد الهادي الجزار

يمنح الكتاب مساحة كافية لجانب مهم من حياة عبد الهادي الجزاء يتعلق بالجزء الإبداعي فتقول إيناس الهندي: هناك جانب غير معروف لإبداعات الجزَّار، فالجميع يعرف الإبداع التصويرى ويُميزه، أمَّا عن الإبداع الأدبى للجزار وموهبة كتابة الشعر والقصة القصيرة فلم يكن يعلم بها إلَّا المقربون جدًّا، كما كانت هناك تجربة إبداعية مُشتركة بينه وبين الشاعر المهاجر أحمد مرسى، حيث كتب مرسى آنذاك القصيدة الديوان بعنوان "ماتت تحت ضوء القمر"، وطلب من عبد الهادى الجزَّار أن يرسمها، وبدأ الجزَّار فى رسمها بالفعل، فرسم الغلاف وعدَّة صفحات، إلَّا أنَّ تلك التجربة لم تكتمل لأسباب غير معروفة.
كما أنَّ الجزَّار نفسه يكتب شعرًا وزجلًا، وكانت المناظرات الشعريَّة بينه وبين تلميذه فى ذلك الوقت صلاح جاهين، فكانت الجلسات الفنية تحفل بتلك المناظرات الشعريَّة والزجليَّة.
وكتابات الجزَّار الزجليَّة أشبه برسمة غارقة فى الأجواء الشعبيَّة والإبداعات الصوفيَّة مُحمَّلة بزخم من حالات الوجد والصور الشعريَّة والجماليَّة والوصفيَّة، إنَّ إبداعات الجزَّار تُشكِّل ضفيرة مُتماسكة من خصائص مُشتركة سواء كانت شعرًا أم رسمًا أم قصة.

لوحة
لوحة


لم يكن الجزَّار يكفُّ عن الإبداع، لقد كان يرسم فى كل الأوقات، يكتب فى كل الأوقات، يحمل الكثير من الطاقة الإيجابية ويوزِّعها على المُحيطين، كان شعلةً من النشاط ينام ساعات قليلة – تصل إلى أربع ساعات – وباقى اليوم إبداع، رسم، غناء، كتابة، تلاوة قرآن، بحث، وقراءة… يتقن العديد من اللغات، وكان يكتب سيناريو برنامج إذاعى عن الفن أيضًا، وصمَّمَ فيلا تدور على محورها.

من أحلام عبد الهادى الجزار التى سجلها:
‏ حلم ليلة السبت 30/10/1948


‫ كنتُ أستحم فى بحر مع عددٍ من النَّاس تُحيط بى الصخور والأعشاب، وفجأة وجدتُ بعض النَّاس –وهم يبعدون عنى بمسافة كبيرة- مشغولين بالبحث عن شخص غريق، وشعرتُ بعدم الرغبة فى البحث معهم، وخرجتُ من الماء مُهرولًا وأخذت أجرى وأجرى وكان يُطاردنى كلبٌ مُتوحش مثل الذئب وكنتُ أضربه، وأخيرًا دخلتُ فى كوخ وأحكمتُ غلق الباب والمنافذ حتى لا يدخل على أحد، وبينما أنا مُنشغل فى تغيير ملابسى إذ بالشخص الغريق يدخل على فجأة ويقول أنا الذى كنتُ غريقًا.

‏أزجال الجزار


كتبت كتابات من غير حبر بمــعاني
‫ ومدحت فى الزين جيتنى النَّاس بمعاني
‫ وسافرت فى الغيــب لا زاد ولا مـيّ
‫ والرزق لله لا بعشــرة ولا بمـــية
‫ أنا خايف أمـــوت يموت الفن قبليه
‫ عبد الهادى الجزَّار

‏ من قصيدة (مواليد عرايا):


‫ يا راغب النور شوف الخلق وشوف طبايعها..
‫ ولف معاها وميل واضحك وطايعها..
‫ تلقى المعانى فى الخلايا والحساب والجبر..

‫ والنفس حق وعين تعرف مقاصدها..

مجاذيب
مجاذيب

 

قصيدة بعنوان (البقعة الحمراء).


‫ وأنا أنتظر ميعاد ذكرك يا إلهي
‫ وأنظر كل شيء تحدثه بإبداع
‫ حتى أدرك عظمتك
‫ ولا أتدخل فى علمك وتدبيرك وتصرفك
‫ فهو فوق طاقتى وتستقر نفسى حين ألقاك
‫ وجود عجيب قريب وأنا بداخله
‫ أتعلم من عظمتك وقدراتك
وأحب كل شيء يُقربنى إليك
‫ دون افتعال ودون عجلة أشكرك وأسبحك وأعبدك
‫ ولا أشعر بالملل
‫ لأنك أعطيتنى المنظار الذى أنظر به إليك
‫ يا قدوس.. يا جبار.. يا رب.. يا أحد
‫ إنه يختتم أبياته الشعريَّة بهذه المُناجاة بينه وبين الله، ويشكره ويسبحه، إنه فى مناجاته هذه أشبه بطائفة المنشدين الذين يناجون الله فى أشعارهم ويتغنون بها.

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى