التكييف يحاصر أوروبا.. بين موجات الحر وضغط الكهرباء وتفاقم الأزمة البيئية.. شبكات كهرباء على حافة الانهيار أمام حرارة قياسية.. وارتفاع استخدام أجهزة التبريد تهدد البنية التحتية وتتحول إلى قنابل كربونية صامتة

لم يعد الصيف الأوروبى مجرد فصل عطلات وسفر، بل تحوّل فى السنوات الأخيرة إلى جرس إنذار بيئى واقتصادي. مع اجتياح موجات حر غير مسبوقة تجاوزت الـ 40 درجة مئوية فى عواصم ومدن كبرى، وجد ملايين الأوروبيين أنفسهم أمام معضلة معقدة: البحث عن برودة أجهزة التكييف كوسيلة للبقاء، فى مقابل الضغوط الهائلة على شبكات الكهرباء وتفاقم الانبعاثات الكربونية.
وفى الوقت الذى تتحول الحاجة إلى التبريد من رفاهية إلى ضرورة حياتية، تتكشف أزمة أوسع تُظهر هشاشة البنية التحتية فى مواجهة التغير المناخى، وتطرح تساؤلات حول مستقبل القارة فى صيف بات أقرب إلى اختبار قدرة التحمل.
صيف غير مسبوق
تشهد أوروبا هذا الصيف موجات حر قياسية تجاوزت حاجز الـ40 مئوية فى دول مثل فرنسا وكرواتيا والمجر. فى باريس وميلانو ومدريد لامست الحرارة 45 درجة، ليتحول التكييف من رفاهية إلى ضرورة يومية. لكن وراء برودة المنازل والمكاتب تكمن أزمة كبرى: شبكات كهرباء منهكة، وانبعاثات كربونية متصاعدة، واقتصاديات تتراجع بفعل المناخ.
ضغوط على الشبكات.. وانقطاعات متكررة
ورفع الاستخدام الكثيف لأجهزة التكييف استهلاك الطاقة إلى مستويات قياسية. فى فرنسا، اضطرت 17 محطة نووية إلى خفض إنتاجها بسبب سخونة الأنهار المستخدمة فى التبريد، بينما عانت إيطاليا من انقطاعات متكررة مع وصول بنيتها التحتية القديمة إلى حدودها القصوى. ورغم أن الطاقة الشمسية ساعدت فى تغطية جزء من العجز وقت الذروة، فإن اعتماد القارة عاد مجددًا إلى الغاز بعد تراجع إنتاج الرياح فى دول مثل فنلندا وبريطانيا.
التكييف..عبء دائم على الطاقة
يرى خبراء الطاقة أن الاعتماد المتزايد على أجهزة التكييف قد يحولها إلى عبء دائم على استقرار الشبكات. فوفق وكالة الطاقة الدولية، تمثل مكيفات الهواء 20% من استهلاك الكهرباء فى المبانى، وتؤدى وحدها إلى إضافة ملايين الأطنان من انبعاثات ثانى أكسيد الكربون. دراسة حديثة لجامعتى فينيسيا وبوسطن أكدت أن أوروبا ستشهد زيادة تُقدّر بـ10 ملايين طن من الانبعاثات بحلول 2050، فيما قد تصل الزيادة فى الهند إلى 120 مليون طن.
إيطاليا تتصدر القائمة
تعد إيطاليا أكبر مستهلك للكهرباء المستخدمة فى أجهزة التكييف على مستوى الاتحاد الأوروبى، إذ تستحوذ على نحو ثلث الاستهلاك، بما يقارب 23 ألف تيراجول سنويًا من إجمالى أكثر من 60 ألف. ويعود ذلك إلى موجات الحر الشديدة التى تضرب البلاد وصولًا إلى 48 درجة فى صقلية وسردينيا، بجانب ارتفاع نسبة كبار السن الأكثر عرضة للمخاطر. تليها اليونان، ثم فرنسا وإسبانيا وألمانيا، فيما تحتل دول البلقان مثل ألبانيا وكوسوفو مراكز متقدمة نسبيًا رغم صغر حجمها.
خسائر اقتصادية وصحية متصاعدة
ولا تقف تأثيرات الحرارة عند حد استهلاك الكهرباء. تقارير أوروبية تشير إلى أن الخسائر الاقتصادية بسبب موجات الحر تجاوزت 1% من الناتج المحلى الإجمالى، مع توقعات بارتفاعها إلى أكثر من 2.5% فى دول جنوبية مثل إيطاليا واليونان وإسبانيا بحلول 2055. أما دول الشمال كالمملكة المتحدة والدنمارك فتبقى أقل تأثرًا (0.5% فى أسوأ السيناريوهات)، لكنها تشهد أيضًا زيادة واضحة فى استهلاك أجهزة التبريد.
مخاطر بيئية وصحية إضافية
لم يقتصر المشهد على الضغط الكهربائى والاقتصادى، بل امتد إلى تهديدات صحية جديدة. فقد أُجبرت مدن ساحلية أوروبية على إغلاق شواطئها بعد انتشار بكتيريا "فيبرو" المرتبطة بارتفاع حرارة المياه وتراجع ملوحتها. هذه البكتيريا، التى كانت تُرصد سابقًا فى بحر البلطيق فقط، باتت تنتشر فى البحر المتوسط، مسببة أمراضًا قد تصل إلى تعفن الدم وبتر الأطراف لدى الفئات الأكثر ضعفًا.
أوروبا أمام مفترق طرق
أجهزة التكييف التى تحمى السكان من الحرارة القاتلة تحولت إلى "قنابل كربونية صامتة" تسرّع من تفاقم الأزمة البيئية. أوروبا الآن أمام تحدٍ مزدوج: ضمان استقرار الكهرباء وحماية المواطنين من الحر، وفى الوقت ذاته تجنّب زيادة الانبعاثات والخسائر الاقتصادية. الخبراء يرون أن الحل يكمن فى تسريع الاستثمار بالطاقات المتجددة، تطوير شبكات أكثر مرونة، واعتماد أنظمة تخزين ذكية قادرة على امتصاص الصدمات.

Trending Plus