خالد دومة يكتب: ميريام

قبل أن تشرق الشمس على قريتنا، كانت تتنفس ببطء، تتمطع على فراشها، تتثائب ثم تدب الحركة هنا وهناك، وتقوم تنفض غبار الكسل عنها، لتبدأ يوما جديدا من أيام الله، تتوضأ وتصلي وتدعو كما تعودت، ثم تقوم للجهاد، كان أبي يوقظنا في الصباح الباكر، كان وجه أبي وأمي ورحيل الظلام، أول ما تقع عليه عيني كل صباح، كل الصباحات جميلة، الندي يتساقط، يغسل الأشياء؛ لتبدو نظيفة، والهواء نقي من أوشاب النهار السابق.
كأنت الحياة في قريتنا النائية تتجدد كل صباح، تمشط شعرها الأشعث، وتتأنق في زيها الجديد، وترش العطور، وتنتظر تستقبل الناس في أبهى حلة، تفعل ذلك كل يوم، بلا كلل ولا ملل، ولم تشكو يوما، والناس تعبث بها، وتثير التراب، وتعكر صفو الجو، وتملأ الشوارع بالروث والنفايات في المساء، وتلقي بها في وسط الطريق بلا أسف، حتى تجد الأرض أكتست بالظلمة، وتبدأ عملها اليومي، وتنشط في محو أثار الفوضى، التي سببها الناس في يومهم، وتعيد ترتيب الأمور وإعادتها إلى نصابها الصحيح، ومنذ صغري ألهمني منظر الصباح الكثير، وأنطبع في مخيلتي، ما يحمله من جمال وروعة، وغرس في قلبي عشق أشعر بأنه انحفر في أعماقي منذ زمن بعيد، وحفر في، أشياء أخرى، لا أدري ما كنها، ولكنها أشياء ترق لها النفس وتشف، ورسم خطى ساقتني إلى البحث العميق، والتفكير المتواصل، في ماهية هذا، الذي ولد في.
حين كنت أرى تلك الصباحات، هل هو الحب، وكيف وما كنه؟ وكيف يصيب الناس؟ وآثاره على نفس الإنسان. كأنما كان كل صباح جديد مختلف، يعطي دروسا يومية، وأمثلة حية عن روعة الجمال، ولم يكن الشعور به ينقص أويتبدد أو يعتاد، لم أألفه. إنما شعور يتجدد كل يوم، بل كل لحظة، ويطلعك على جديد، ويلهمك أيضا شعورا مختلفا، رحلة النور القادم، والظلام حين يرحل، ويتبدد في هدوء، وينسلخ النهار من الليل، ويعم النور الوجود كل يوم، ترى أشعة جديدة، وهواء رائحته تختلف عن سابقته، كنت أرصد تلك الفتنة اليومية، التي تخلب عقلي وتلهب قريحتي، وتجعلني أسبح في فضائها الرحب، وأصعد بأجنحة من الخيال، إلى السموات العلى، أعب من رحيق الجنان، ثم أفيق على صوت أبي يناديني، وكان أبي يتطلع إلي بإستغراب، تأخذه الدهشة من شرودي، ونظرتي الطويلة إلى السماء، أنه ينظر إلى السماء كما أنظر، ولكنه لا يرى ما أرى، ما يجعلني أطيل النظر، يجدني أتامل كل يوم بزوغ يوم جديد، وربما تسآل بينه وبين نفسه، أليس اليوم كالأمس؟ يراني استنشق الهواء على نحو يشعره، بأني استنشقه للمرة الأولى، فهواء الصباح الباكر لم تتغير رائحته، يحمل نفس العبق، كل يوم يمر أفعل، كل يوم هو نفس المنظر، ونفس الهواء، كان أبي يرى ذلك، ولكني لم أرى تشابه بين يوم ويوم، صباح وصباح، هواء وهواء، فكل يوم هو كائن منفصل، وليد جديد، ملاك جديد، له سماته وصفاته وجماله وعمله وروعته، كم كنت أحب ذلك الصباح.
وبعد ساعة أو بعض ساعة، تبدأ الأقدام تدب فوق الأرض، والغبار يعلو، والأصوات تتعالى، والحركة تزداد، ويشق صورة الحسن ضجيج، وخربشات في الأجواء الصافية، تنتهك حرمته، ويخرج الناس إلى أعمالهم، يمتطون الحمير، وفي أيديهم حبل طويل، يسحبون منه الجاموسة أو البقرة، يقف ويمد يده بقوة يسيرة، ناولني ربع سكر، وباكو شاي صغير، أناوله ثم يمضي، قرصتين فينو للصغير، قطعة حلاوة، تلاتة فرط، ومشط كبريت، أبي جالس كعادته أمام الدكان، يفترش الحصيرة، ويجلس يراقب الشارع، والناس حين يذهبون إلى أعمالهم، جلسته لم تتغير، منذ أن وعيت على الدنيا وأنا أراه على هيئته كل صباح، على مقربة من بيتنا مسجد، وشيخ المسجد صاحب أبي، يأتي الشيخ بعد شروق الشمس، وبعد أن يصلي الصبح، يجالس أبي، يتحدثا في أحوال الدنيا، ثم يأتي دوري في تحفيظي القرآن، أجلس بجواره يقرأ علي ثم أكرر ما يقول، كان صوته شجي، له نبرة مميزة تخطف الآذان، وتسهل عليك الحفظ، وفي الثامنة يذهب إلى كتابه، ويراجع أبي معي اللوح، مرة بعد مرة، ونحن جالسان ننتظر قدوم أمي بالطعام، كنت في الخامسة، وعندما التحقت بالمدرسة، لم تختلف طقوس الصباح كثيرا، عما أعتدت عليه، في أيامي التي سبقتها.
كان أبي متدين محبا للعلم، وكنت أكبر أبناء أبي، ولم يكن أبا فقط، بل كان صديقا ورفيقا، كان يصاحبني معه دائما، وكان عمله في الدكان يقضي فيه أكثر ساعات يومه، في أثناء الصلاة يذهب إلى المسجد، ويتركني بمفردي، يصنع مني رجلا منذ صغري، كان يراجع معي ما حفظت، على يد الشيخ، تأتي أمي بالإفطار وتجلس بجوارنا، تصنع لنا الشاي، ثم تغادر لترعى شئون بيتها وبنيها الصغار.

Trending Plus