رعاية القلوب

القلبُ هذا الجزءُ الذي يُعدُّ سيِّد الجهاز الدَّوْريِّ، كونه المضخَّة، التي تدفع للجسْم كلِّه الدِّماء المُحمَّلة بأكسِير الحياة، وهو الأُكْسِجين، ناهيك عن متلّون الغذاء، الذي قد مدَّنا بالطاقة الَّلازمة لمناشطنا المُتعدِّدة، والمُخْلِص في ذات الوقت، مما لا يحتاجه الجِسْمُ، إنه يؤدي دور المُنسَّق؛ فإذا ما حدث له أيُّ خلل؛ فإنه يؤثر مباشرة على سائر هذا الجَسَد؛ فحيويَّة الإنسان مرتبطة بسلامة هذا العُضْو المرْكزيِّ، وعلى ذلك نحْرص دومًا على ممارسة كل ما يحافظ على صِحَّة قلوبنا، سواءً بالرِّعاية الماديَّة، أو المعْنويَّة؛ فكلتاهما متكاملتان، لا تنْفكَّان عن بعضهما البعض.
هنالك رعايةٌ يستحقُّها القلبُ، تكْمُنُ في طهارته، ليس الأمر مُتعلِّقًا ببقاء الدِّماء، التي تسير في أوْردته، وشرايينه، وإن كان الأمر لا غنى عنه؛ لنضمنَ أن يعمل بكفاءة؛ لكنَّ المقْصدَ يتمثَّلُ في إخلاص النَّوايا، وحُسْن الظَّن، وصلاح المُعْتقد، ونقاء الفكر؛ فهذه صفاتٌ تُهيئُ البيئة المواتية؛ كي تصفو قلوبَنا، ويبدو نبْضها هادئًا، لا تُؤثِّر فيه مُتقلِّبات الحياة، من حُزْنٍ، أو فرح، أو نَصَبٍ؛ فقد صارتْ المخاوفُ مُبدَّدة؛ حيث يمتلأُ القلبُ بنور الإِيْمان، والتعلُّق بربِّ كل شيء، ومليكه؛ فلا يرْتابُ من قدرٍ، ولا يجْزعُ، أو يفْزعُ من مشيئةٍ قد كُتِبتْ.
رعايةُ القلْب تكْمن في إصْلاحه، وصلاحه؛ فلا مجالَ إلا أن نعمل على نقاء السَّريرة؛ فنُخْلصُ في الأقوال، والأفعال معًا، ونحاول جاهدين أن نهْجُرَ كل سُلُوك يُكرِّس التَعوُّدَ على آثامٍ، من شأْنها أن تُغلَّفَ قُلوبُنا بغشاوةٍ، لا ترى من خلالها أبصارُنا الطَّريقَ القويمَ، بل، تزْدادُ هرْولتُنا نحو المعاصي؛ ومن ثم نُجرِّد النَّفس اللَّوامة من مُهمِّة أصيلة؛ إذ تجْعلُنا نعود من طريق يكْسُوه الضَّبابُ إلى طريق مسْتنير بالهداية، والرَّشاد، ترتاح فيه الأنْفسُ، وتهْدأُ نبضاتُ القلوب، فلا تشْقى في الحياة، وبعد الممات.
قُلوبُنا في احتياج أن تفارقَ صُور النِّفاق، التي قد ملأتْ الأرْجاءَ، وأضحتْ الحياةُ صاخبةً بأحداث مؤْسِفةٍ، يُقْهرُ فيها الضَّعيفُ، ويتملَّكُ زِمامَها أصحابُ النُّفُوذ، ممن يحْسِنون التلُّون، والوُصُول إلى مآربهم، ولو كان على حساب حقوق الآخرين، وهنا نؤكد بيقين راسخٍ أن قلوب هؤلاء قد باتت مريضةً، ولا يُرْجى شِفاؤُها، رغم العديد من الإنْذارات، التي قد تلَّقتْها؛ لكن طُمسَتْ الغريزةُ في صوْرتها، غير المُنْضبطة على كل ما نادت به قيمُ الإصْلاح، والصَّلاح، واسْتُبدلتْ بخلقٍ دميمٍ، يعضِّدُ حُبَّ الذَّات، وتقْديم المصْلحة الخاصَّة، عما سِواها، ولا يُضارُ في مقابلها الجُمُوعُ.
تحوز قلُوبُنا الطُمأنينة، والسَّكينة، إذا ما حرْصنا على أن تنْضُجَ قُلُوبُنا في رحاب الثِّقة بالله – تعالى –، وهنا نتحدَّثُ عن التسليم مع العمل؛ حيث يتوجَّبُ علينا أن نأخذَ بأسباب، ومُسبِّبات الصَّلاح، والإصْلاح، ثم نترك ما تؤولُ إليه النتائجُ؛ فما يُصِيبُنا من خير فبفضلٍ من العليِّ القدير، وما يمسُّنا من ضُرٍّ، فبإرادة السَّميع العليم، وهنا تزداد نُوْرانيَّةُ قُلُوبِنا؛ لتصبحَ كاشفةً، ومُلْهمةً، وداعمة لكل صور الخير، ومُحفِّزة للمُضيِّ قُدُمًا في أسْرابه، التي يُثْمِرُ عنها الخيرَ للبشريَّةِ جمعاءَ؛ حينئذٍ ندرك ماهيَّة الإنسانيَّة في صوْرتِها الحقيقيَّة.
ثمْرة رعاية القُلوب نراها في توجيه جوارحِنا إلى سُبُل الطَّاعة بكل أشْكالها؛ فترصد التَّسامح بين بنِي البشر، جرَّاء قلوبٍ، مليئة بالطِّيبة، والمحبَّة، والتواضع وسرعة الرجوع إلى الصَّواب، والشَّجاعة في الاعتراف بالخطأ؛ لذا تجد الإحسان بديلًا لصور الانتهاكات، التي قد أضْحتْ تزخر بها مُفْرزاتِ الفضاء الرَّقميِّ، الذي يبعث بمشاهدَ تُدْمي القُلُوبَ؛ حيث الإفراط في الانتقام، والقسْوة المتناهية، والجفاء غير المحدود، والكراهية، التي تُترْجمُها أفعالٌ خسِيسةٌ، لم تعتدْ أنْظارُنا رؤْيتها؛ عندئذٍ نقول أن القُلُوبَ قد باتت مُضْطرِبةً، ولا بد أن نُقدَّم لها العلاج الناجز على الفور.
بصيرة القلب نُرْزق منها صور الهداية في كل ما نسْعى، وما نقصد، وتلك البصيرة نتحصَّلُ عليها من رعاية القلوب، من خلال تعْويد النَّفس على الاستقامة، وتجنُّب الانغماس في بحور الشُّبهات، والشَّهوات على حدٍّ سواءٍ؛ لذا ما علينا إلا أن نحاول، ونصْدق النيَّة فيما نفعل، ونتمسَّكُ بثوابت قيمنا النبيلة، ونسأل الله – تعالى – أن يرزقنا الهُدى، والتُّقى، والعَفاف، والغِنى، وندعوه قائلين "رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ".

Trending Plus