عصر المحاكاة تسليع الثقافة وفقدان الأصالة

في عصر هيمنة الإعلام الجديد، إعلام السوشيال ميديا، حيث تتسارع وتيرة انتشار المحتوى الفيروسي عبر منصات التواصل الاجتماعي، نشهد تحولاً جذرياً في بنية الهوية الفردية والجمعية. إن انتشار ثقافة "الفيديو والبوست" التي تُشترك بالآلاف لم يخلق مجرد تفاعل عابر، بل أدى إلى تشيؤ الذات وتوحيد الأذواق، مما يحول الأفراد إلى نسخ باهتة أو مسوخ (copied) تتشابه فيما بينها حد التماهي.
إن هذه الظاهرة لا تمثل مجرد تبعات تقنية، بل هي انعكاس عميق لآليات العولمة الرقمية التي تعمل على تسليع التجربة الإنسانية ومحو الخصوصية الثقافية، مستبدلة الأصالة بمجرد محاكاة سطحية.
إن ما نلاحظه في السلوك اليومي هو تلاشي التعبير الفردي لصالح الترديد الجماعي. عندما تردد عبارة عاطفية أو مقولة "ملهمة" مثل "أعظم انتصاراتي" من قبل أشخاص ينتمون لبيئات ثقافية واجتماعية متباينة تماماً —من الفلاح إلى المثقف إلى الجاهل— بنفس الصيغة، فإننا أمام ظاهرة الاستلاب اللغوي والفكري.
من منظور علم النفس الاجتماعي، يرى عالم الاجتماع الأمريكي إرفنج جوفمان في تحليلاته حول تقديم الذات في الحياة اليومية، أن الفرد يدير انطباعاته وأداءه في المجتمع. ولكن في العصر الرقمي، تحول هذا الأداء من تمثيل أصيل للذات إلى مجرد نسخ ولصق (copied) لنماذج جاهزة. لم يعد الفرد يعبر عن تجربته الحقيقية، بل يختار قناعا رقميا مستهلكا جماعيا، مما يؤدي إلى فقدان عميق للخصوصية الفردية.
إن هذا التكرار الببغائي يخلق ما يمكن وصفه بـ هوية البوست: هوية مختزلة، مبسطة، ومجردة من السياق، يسهل استهلاكها ونشرها، ولكنها تفتقر إلى أي عمق أو دلالة شخصية.
إن تأثير هذه الثقافة يتجاوز الفرد ليشمل النسيج الاجتماعي بأكمله. في الماضي، كانت الأذواق الفنية والسلع الاستهلاكية علامات فارقة تميز الطبقات الاجتماعية والجماعات الثقافية.
يقدم عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو في كتابه "التمييز"، مفهوما بالغ الأهمية وهو "الهابيتوس" (habitus)، والذي يشير إلى مجموعة الميول والأذواق التي تشكلت لدى الفرد بفعل بيئته الاجتماعية. كان لكل فئة أغانيها وأفلامها التي تعبر عن "الهابيتوس" الخاص بها وتميزها عن الفئات الأخرى.
اليوم، نجد أن هذه الطوابع الشعبية والخصوصيات قد تلاشت. الجميع يسمع نفس الأغاني، ويشاهد نفس الأفلام، ويستهلك نفس السلع. لقد تم توحيد "الهابيتوس" عبر أدوات العولمة الرقمية. هذا ما يفسر كيف أن ما هو "ترند" في منطقة راقية كالزمالك هو ذاته "ترند" في منطقة شعبية كالدويقة. لقد أصبحت القدرة على التمييز التي تحدث عنها بورديو مهددة بالتلاشي، مما يؤدي إلى تسطيح ثقافي شامل.
إن وسائل الاتصال الحديثة، بفضل خوارزمياتها التي تعزز المحتوى الأكثر انتشارا، تعمل كقوة دافعة خلف هذا التنميط. لقد تحولت الثقافة إلى سلعة قابلة للاستنساخ والنقل، مجردة من جذورها المحلية.
يتوافق هذا المشهد مع رؤية الفيلسوف الفرنسي جان بودريار في تحليلاته حول المحاكاة والواقع الزائف. يرى بودريار أننا نعيش في عالم لم يعد فيه "الأصل" حقيقيا، بل نستهلك "نسخا" من نسخ أخرى. إن الفيديوهات والبوستات الفيروسية هي مجرد "محاكاة" للواقع، تنتج نسخا لا تحيل إلى أي أصل حقيقي، مما يخلق واقعا زائفا يتسم بالسطحية والتكرار.
لقد فقدنا الخصوصية الثقافية التي كانت تميز الأمة عن الأمة، والطبقة عن الطبقة. إننا نتحول إلى "نسخ مشوهة" تتنازل عن أصالتها مقابل الانتماء المؤقت لـ"الترند". إن هذا التوحيد القسري للهويات، الذي تفرضه العولمة الرقمية، يهدد التنوع البشري ويعمق الاستلاب، ويجعلنا مجرد أصداء باهتة لا تحمل أي هوية حقيقية.

Trending Plus