فى ذكرى رحيلك يا أبى.. حكايتى مع الزمن الذى توقف

يقال إن الزمن لا يعرف التوقف، وإن الحياة تمضى مهما كانت الجراح، لكننى تعلمت أن هناك لحظة واحدة قادرة على أن تكسر هذه القاعدة، لحظة فقد الأب، فى هذا اليوم من كل عام، لا تمضى الساعات كما تمضى عند الآخرين، ولا تنقضى الأيام كما يعرفها الناس، بل يعود بى الزمن بقوة إلى تلك اللحظة القاسية، حين جاءنى الخبر الذى هز كيانى وأوقف دقات قلبى.
لم يكن رحيل أبى مجرد حدث عابر، بل كان زلزالًا اجتاح داخلى، فانهارت معه جدران الطمأنينة، وتصدعت أركان الروح، شعرت يومها أن العالم توقف عن الدوران، أن عقارب الساعة تجمدت، وأن كل ما فى الكون صمت حد الصراخ.
أستعيد حتى الآن تفاصيل الوجوه المندهشة من حولى، برودة المكان، والفراغ الهائل الذى خلفه غيابك، كان الفقد بالنسبة لى أكبر من الغياب، كان اقتلاعًا لجزء من الروح، وكسرًا لا يجبر، وفراغًا لا يملأ مهما حاولت.
أبى لم يكن مجرد والد، كان معلمى الأول وأستاذى الأعظم، علمنى منذ طفولتى أن الحياة ليست بما نملك، بل بما نعطى، وأن العطاء ليس واجبًا اجتماعيًا، بل هو هوية الإنسان الحقيقى، كانت ابتسامتك تسبق كلماتك فتضىء كل مكان تطؤه قدماك، وكان قلبك بيتًا يتسع للجميع، للأيتام، للفقراء، للمحتاجين، لكل من طرق بابك، كنت تعطى دون أن تنتظر كلمة شكر، وكأن الخير عندك جزء من التنفس، لا يفكر فيه بل يمارس بالفطرة.
إرثك الحقيقى لم يكن مالًا ، بل كان أثرًا خالدًا تركته فى قلوب من عرفوك، كم من يتيم وجد فيك أبًا بديلًا، وكم من محتاج شعر أنك سند له، وكم من إنسان ضعيف أعطيته القوة ليقف من جديد، هذا الإرث لا ينتهى، بل يمتد ذكراك التى ستبقى حية، كالنور الذى لا ينطفئ مهما طال الغياب.
واليوم، وأنا أستعيد ذكرى رحيلك، لا أعيش الحزن وحده، بل أعيش الفخر أيضًا، أفخر أنك كنت أبى، أننى تعلمت على يديك معنى الرحمة، وأن حبك سيبقى زادى الذى أواجه به قسوة الحياة، صحيح أن الزمن توقف يوم رحلت، لكننى أحاول أن أعيد تشغيله بذكراك، بأن أجمل ما تركته من خير، وأكون امتدادًا لروحك العظيمة.
أعرف أن الفقد لا يزول، لكنه يتحول بمرور الوقت إلى قوة تدفعنا لنكون أفضل، إلى ذكرى تنير الطريق وتدلنا على المعنى، وهكذا، فإنك لم ترحل حقًا، بل تعيش بداخلى، فى كل قرار صائب، فى كل ابتسامة أمنحها لضعيف، فى كل يد أمدها لمحتاج، أنت معلمى الأول والأخير، وستظل النور الذى يضىء دربى حتى ألقاك.
رحمك الله يا حبيبى، يا رجل الخير والرحمة، يا سندى الذى لا يعوض، سيبقى اسمك محفورًا فى قلبى ما حييت، وسيظل الزمن، مهما حاول أن يمضى، متوقفًا عند لحظة فقدك، لأنك لم تكن مجرد إنسان عابر فى حياتى، بل كنت الحياة نفسها.

Trending Plus