موجات الحر تتحول إلى كابوس اقتصادى جديد فى أوروبا.. زيادة غياب العمال وتراجع الإنتاجية يهددان النمو ويضعان الحكومات أمام تحديات غير مسبوقة.. وتقليص ساعات العمل وتقنين استهلاك الكهرباء والتكييفات أبرز الإجراءات

لم تعد موجات الحر فى أوروبا مجرد ظاهرة مناخية عابرة تثير قلق المواطنين في فصل الصيف، بل أصبحت أزمة اقتصادية واجتماعية متكاملة الأبعاد. مع توالى السنوات الحارة، بدأت الحكومات الأوروبية والشركات تدرك أن درجات الحرارة المرتفعة قد تُعيد رسم خريطة سوق العمل وتضغط على الناتج المحلى الإجمالى، فى وقت تكافح فيه القارة أصلًا تداعيات التضخم وضعف النمو.
غياب متزايد وإنتاجية متراجعة
تشير تقارير العمل فى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا إلى أن نسب غياب العمال خلال موجات الحر الحادة ارتفعت بنسب تتراوح بين 5% و15%، خاصة فى القطاعات التى تتطلب جهدًا بدنيًا مثل الزراعة والبناء والخدمات اللوجستية. ورغم محاولات أصحاب العمل فرض ساعات مرنة أو بدء الورديات فى ساعات الصباح الباكر، إلا أن الإجراءات لا تكفى لتعويض الانخفاض الواضح فى الإنتاجية.
وتؤكد الدراسات الصادرة عن مؤسسات اقتصادية أوروبية أن إنتاجية العامل قد تنخفض بما يصل إلى 20% عندما تتجاوز الحرارة 35 درجة مئوية، وهو ما يعنى تراجعًا مباشرًا فى مستويات الإنتاج والخدمات، وفقا لصحيفة لاراثون الإسبانية.
خسائر مباشرة فى الناتج المحلي
الأثر لا يقتصر على بيئة العمل فحسب، بل يمتد إلى قلب الاقتصاد، حيث حذر البنك المركزى الأوروبى فى آخر تقاريره من أن استمرار موجات الحر يمكن أن يقتطع ما بين 0.2% إلى 0.5% من الناتج المحلى الإجمالى لدول الاتحاد الأوروبى فى السنوات شديدة الحرارة، وهى نسبة تبدو صغيرة على الورق لكنها كفيلة بزيادة حدة التباطؤ الاقتصادي.
قطاعات تحت الضغط
الزراعة، تعتبر من أكثر القطاعات التى تتعرض للخطر بسبب موجات الحر، مع المحاصيل الأساسية مثل القمح والعنب والزيتون تسجل خسائر متكررة بسبب الجفاف وحرارة الصيف، ما يرفع أسعار الغذاء ويغذى التضخم.
أما الصناعة، بعض المصانع تُجبر على تقليص ساعات العمل أو زيادة نفقات التبريد، ما يؤدى إلى ارتفاع التكاليف وتراجع الإنتاج.
وعن السياحة: بينما تنتعش الوجهات الساحلية، تشهد المدن الداخلية تراجعًا فى أعداد الزوار نتيجة الحرارة المرتفعة، ما يضر بموسم سياحى يُعد ركيزة أساسية لاقتصاد دول مثل إسبانيا وإيطاليا.
تكاليف إضافية
كما يواجه القطاع الصحى فى القارة ضغطًا مضاعفًا، حيث ترتفع حالات الإصابة بضربات الشمس وأمراض الجهاز التنفسي. أما على صعيد الطاقة، فإن استهلاك الكهرباء يزداد بشكل غير مسبوق لتغطية احتياجات التبريد، ما يرفع الفواتير ويزيد من مخاطر انقطاع التيار. بعض الحكومات الأوروبية بدأت بالفعل فى إطلاق برامج لتعويض العمال عن ساعات التوقف الإجبارى خلال موجات الحر، لكن هذه التعويضات تضيف عبئًا جديدًا على الموازنات العامة.
آثار اجتماعية بعيدة المدى
ولا تقتصر الحرارة المرتفعة آثارها على المدى القصير، بل تترك بصمات طويلة الأجل. فى دول جنوب أوروبا مثل إسبانيا وإيطاليا واليونان، هناك مخاوف من موجات هجرة داخلية للعمال نحو الشمال بحثًا عن ظروف مناخية أفضل، وهو ما قد يعمّق الفوارق بين الدول الأوروبية. كما أن العمالة منخفضة الدخل هى الأكثر تضررًا، إذ تفتقر غالبًا إلى خيارات العمل عن بُعد أو وسائل التبريد الحديثة.
دعوات لتسريع التحول الأخضر
أمام هذه الصورة القاتمة، يرى خبراء الاقتصاد أن الحل يكمن فى الاستثمار السريع فى مشاريع التكيف المناخى، مثل الأبنية الموفرة للطاقة، أنظمة التبريد المستدامة، وتخطيط المدن بما يتلاءم مع التغيرات المناخية. المفوضية الأوروبية بدورها حذرت من أن "موجات الحر المتكررة قد تتحول إلى أحد أكبر التهديدات الصامتة للاقتصاد الأوروبي"، داعية إلى تبنى استراتيجيات طويلة الأمد لمواجهة الظاهرة.
وتواجه أوروبا اليوم معادلة صعبة: من جهة تسعى للحفاظ على النمو ومكافحة التضخم، ومن جهة أخرى تجد نفسها فى مواجهة واقع مناخى جديد يضغط على أسواق العمل والقطاعات الإنتاجية. موجات الحر لم تعد مسألة بيئية فقط، بل أصبحت قضية اقتصادية واجتماعية تمس كل بيت أوروبى، وقد تحدد مسار الاقتصاد فى العقد المقبل إذا لم يتم التعامل معها بخطط شاملة وجريئة.
إجراءات الدول للحد من الأزمة
أعلن عدد من الدول لإجراءات للحد من الأزمة، منها إسبانيا: خلال يوليو الماضى، أعلنت مدريد حالة الطوارئ الصحية فى عدة أقاليم بعد أن تجاوزت درجات الحرارة 44 درجة مئوية، وسمحت الحكومة للشركات بتقليص ساعات العمل أو تعديل جداول الورديات لتفادى فترة الظهيرة، بينما تراجع إنتاج الزيتون بنسبة تقارب 25% نتيجة الجفاف وحرارة الصيف.
أما فرنسا فقد شهدت ارتفاعًا قياسيًا فى استهلاك الكهرباء بسبب أجهزة التكييف، ما دفع السلطات إلى التحذير من احتمالية انقطاع جزئى للتيار. كما فرضت بعض البلديات إجراءات خاصة، منها تقييد العمل فى مواقع البناء بين الثانية عشرة ظهرًا والرابعة مساءً. وفى إيطاليا، فقد اضطرت مزارع العنب إلى رش المحاصيل بالمياه فى محاولة لحمايتها من الاحتراق الحرارى، فيما أشارت جمعيات الزراعة إلى خسائر قد تتجاوز مليار يورو فى قطاع النبيذ وحده.
أما اليونان فقد أغلقت السلطات موقع "الأكروبوليس" الأثرى فى أثينا لعدة ساعات يوميًا لحماية السياح والعاملين من التعرض المباشر للشمس، ما أثر سلبًا على العائدات السياحية فى ذروة الموسم.

Trending Plus