"23 أغسطس" فى ذاكرة الحركة الوطنية.. يوم تتقاطع فيه مسارات زعماء الوفد.. وفاة سعد زغلول ومصطفى النحاس.. وإحياء الحزب بعد سنوات من التجميد على يد فؤاد سراج الدين

يُعَدّ يوم ٢٣ أغسطس أحد الأيام التي تحمل رمزية خاصة في الذاكرة الوفدية، فهو ليس مجرد تاريخ عابر في سجل السياسة المصرية، بل تقاطعت عنده ثلاثة أحداث محورية ارتبطت بثلاثة من أبرز زعماء الوفد هم سعد باشا زغلول، مصطفى النحاس باشا، وفؤاد سراج الدين، فكل منهم جسد على نحو مختلف معنى الوطنية والعمل الحزبي، وكلهم تركوا بصمات لا تزال ماثلة في التاريخ السياسي المصري حتى اليوم.
سعد زغلول.. زعيم الأمة ورمز الاستقلال
تحل اليوم الذكرى الـ98 لرحيل الزعيم سعد زغلول، الذي غيّبه الموت في 23 أغسطس 1927 بعد ثمانية أعوام من اندلاع ثورة 1919 التي كان قائدها وملهمها الأول.
وُلد سعد زغلول في 1 يونيو 1860 بقرية «إبيانة» بمحافظة كفر الشيخ، ونشأ في بيت ريفي عُرف بالعلم والمكانة. فقد والده وهو في السادسة، فتولى شقيقه الأكبر رعايته، ليشبّ متأثراً بصلابة الفلاح المصري وإصراره.
بدأ نشاطه السياسي مبكراً بالمشاركة في الثورة العرابية، ودفع ثمن ذلك بالاعتقال وفقدان وظيفته، فأُضطر للعمل بالمحاماة، ثم التحق بالقضاء عام 1892 حتى صار نائباً بمحكمة الاستئناف. لاحقاً تولى وزارتي المعارف والحقانية، قبل أن يعتزل الوزارة ويخوض الانتخابات التشريعية، حيث فاز باكتساح واختير وكيلاً للجمعية التشريعية.
مع اندلاع الحرب العالمية الأولى وفرض الحماية البريطانية على مصر عام 1914، صعد الاحتلال قبضته على البلاد. وفي أعقاب الحرب، تأسس «الوفد المصري» للمطالبة بالحرية والاستقلال، فاختير سعد رئيساً له ليصبح زعيم الحركة الوطنية وقائد النضال ضد الاحتلال البريطاني، متحملاً النفي والاعتقال في سبيل القضية الوطنية.
تُوج كفاحه بتوليه رئاسة أول وزارة شعبية عقب الاستقلال، كما أصبح أول زعيم مصري يلقي خطاب العرش في افتتاح البرلمان عام 1924، ثم تولى رئاسة مجلس النواب حتى وفاته عام 1927 عن عمر ناهز 67 عاماً.
مصطفى النحاس.. الامتداد الطبيعي لمدرسة سعد باشا
بعد رحيل سعد، حمل مصطفى النحاس الراية، ليصبح أحد أكثر الزعماء تأثيرا في الحياة السياسية المصرية، فقد تولى رئاسة الحكومة سبع مرات، إلى جانب إسهامه في تأسيس جامعة الدول العربية.
وُلد النحاس عام 1879 في سمنود بمحافظة الغربية لأسرة متوسطة، بدأ حياته موظفاً بهيئة التلغراف قبل أن يلتحق بكلية الحقوق ويدخل سلك القضاء. ارتبط مبكراً بالزعيم سعد زغلول، ورافقه في منفاه، وبعد رحيله عام 1927 اختير النحاس رئيساً لحزب الوفد وزعيماً للأمة.
شغل منصب رئيس مجلس النواب عام 1927، ثم شكّل أولى وزاراته في مارس 1928، وتعاقب بعدها على رئاسة الحكومة حتى يناير 1952، في فترات تخللتها صدامات مع القصر والاحتلال البريطاني. وخلال وزارته الأخيرة ألغى معاهدة 1936 قائلاً عبارته الشهيرة: "من أجل مصر وقّعت المعاهدة، ومن أجلها ألغيتها"، لتتصاعد بعدها حركة الكفاح المسلح في منطقة القناة.
واجه النحاس خلال مسيرته ست محاولات اغتيال، لكنه ظل ثابتاً في الدفاع عن الدستور والحقوق الوطنية. وخلال حكوماته، شهدت مصر إصلاحات بارزة مثل إقرار مجانية التعليم في مختلف المراحل، وإصدار قانون استقلال القضاء، بالإضافة إلى تأسيس مجلس الدولة، ديوان المحاسبة، ووزارة الاقتصاد الوطني، فضلا عن تعزيز حرية الصحافة على نحو غير مسبوق، والاهتمام بالتصنيع والاقتصاد الزراعي.
وظل النحاس باشا زعيماً بارزاً حتى رحيله في 23 أغسطس 1965، ليترك إرثاً سياسياً ودستورياً جعل منه رمزاً للنضال البرلماني والوطني في تاريخ مصر الحديث.
فؤاد سراج الدين.. إحياء الحزب من تحت الرماد
وجاء يوم ٢٣ أغسطس مرة ثالثة ليحمل حدثا مفصليا، حين أعلن فؤاد سراج الدين عام 1978 عودة حزب الوفد للحياة السياسية بعد سنوات من التجميد والحظر.
ورحل سراج الدين عام 2000، بعد رحلة كفاح امتدت لعقود، واجه خلالها الاحتلال البريطاني وأسهم في معارك وطنية وسياسية بارزة، منها إلغاء معاهدة 1936 وبدء حركة الكفاح المسلح في القناة، وكذلك دوره في تأميم البنك الأهلي الإنجليزي وتحويله إلى بنك مركزي مصري.
ويُحسب له أنه صاحب قرار اختيار يوم 25 يناير عيدًا للشرطة، تخليدا لرفض رجالها الإنذار البريطاني عام 1952، كما ارتبط اسمه بعدد من التشريعات المهمة مثل قانون الكسب غير المشروع، قوانين النقابات العمالية، الضمان الاجتماعي، وإنصاف الموظفين.
وعندما تولى وزارة المالية عام 1950 فرض لأول مرة الضرائب التصاعدية على كبار ملاك الأراضي، كما شغل عدة حقائب وزارية بارزة بينها الداخلية، الزراعة، الشئون الاجتماعية، المواصلات، والمالية.
عاد حزب الوفد إلى الساحة السياسية عام 1978 تحت قيادته، وظل رئيسًا له حتى وفاته، ليبقى فؤاد باشا سراج الدين رمزا للنضال الوطني ورجل دولة استثنائيا ساهم في صياغة تاريخ مصر الحديث.
يوم تتلاقى فيه المسارات
تجمتع هذه التواريخ الثلاثة على معنى عميق وهو أن حزب الوفد يمثل حالة وطنية مستمرة عبر أجيال مختلفة من الزعماء. من سعد الذي فجر ثورة شعبية، إلى النحاس الذي جسد النضال الدستوري، إلى سراج الدين الذي أعاد إحياء الحزب في العصر الحديث. لذا، يرى الوفديون في ٢٣ أغسطس يوم الوفاء لزعمائهم، وفرصة لاستدعاء دروس الوطنية التي صاغوها بعرقهم وتضحياتهم.
إن رمزية هذا اليوم تكمن في أنه يجمع بين الفقد والبعث: فقدان زعيمين من أعظم ما أنجبت مصر، وبعث للحزب من جديد على يد قائد مخلص، وهو ما يؤكد أن الوفد سيظل، برموزه وأفكاره، جزءا أصيلا من تاريخ الحركة الوطنية المصرية.

Trending Plus