سقوط أوراق التين رواية تبحث عن مواجهة الشر.. مينا عادل جيد: لا أخشى الموضوعات الشائكة.. وطيف "دون كيخوته" ملمح أساسي في أعمالي.. صغت لغة أقرب للترجمات عن القبطيّة للعربية.. وفكرتي هي خلق النظام في وجه الفوضى

حاوره أحمد إبراهيم الشريف

 

بدأتُ الرواية بانفعال من قصفِ "المعمداني" في غزة… ثم دلَّني "بستان الرهبان" على طريق سؤال الشرّ

• أكتب حين يملأني الهمّ
•  لم أقرأ "عزازيل" كاملة.. وتأثرت بـ "إغواء القديس أنطونيوس" لـ جوستاف فلوبير

 

فن الرواية لا حدود له، لا يمكن حصره، لكن العمل الجيد يقدم نفسه، نعرفه من منطقه ورؤيته ولغته وأفكاره وجماله وفنه، وهذا ما شعرت به عندما قرأت رواية "سقوط أوراق التين" للكاتب  مينا عادل جيد، والصادرة عن الدار المصرية اللبنانية، والتي تنطلق من عالمٍ شديد الحساسية، وتعود إلى القرنين السادس والسابع الميلادي، لتفتّش في سؤالٍ قديمٍ لكنه لا يموت "كيف نواجه الشرّ؟".

من هنا ذهبنا لمحاورة مينا عادل عن الرواية وتراثها، عن مصادرها وتأويلاتها، عن لغتها  وطريقة كتابتها، عن بطلها الراهب شيشاي الباحث عن نفسه والمقاوم للشياطين وعن مشاعره المتأرجة بين الشك واليقين.. فإلى نص الحوار:

سقوط اوراق التين
سقوط اوراق التين

 

تدور أحداث  رواية سقوط أوراق التين حول راهبٍ مصري يتقلب بين الشكّ واليقين في غالبية الوقائع، كيف أتتك فكرة الرواية؟

لم أكن أنوي كتابة رواية عن الرهبنة القبطية تدور في عصر ما قبل دخول العرب إلى مصر، بل في الأساس كنت مدفوعًا بانفعال بعد بدء الحرب في غزة، وخاصةً يوم القصف الإسرائيلي للمستشفى الأهلي العربي "المعمداني". قلتُ لنفسي: سأكتب كتابًا فكريًّا عن الشرّ، وهو سؤال فلسفيّ ليس له إجابة واحدة. وبعد اطّلاعي على الأعمال الفكرية الفلسفية التي سألت السؤال نفسه، وجدتُ لديَّ رغبةً في التفتيش عن سؤال الشرّ في الأعمال التراثية القبطية، واقتنيتُ كتاب "بستان الرهبان"، أعرف الكتاب منذ الطفولة بالطبع—أعرفه اسمًا—وقد حُكيَت لنا منه قصصٌ في مدارس الأحد بالكنيسة؛ لذلك أحفظ منه شفهيًّا بعض القصص عن حروب الشيطان للرهبان الصالحين، إلا أنني لم أفكّر في قراءته قبل ذلك. فإذا بي أجدني أمام عملٍ أدبيٍّ عظيم، فقررتُ أن أكتب رواية تطرح سؤال الشرّ من خلال إعادة توظيف التراث الأدبي القبطي (الأدب الرهباني) فنيًّا.

هذه المنطقة الشائكة من الموضوعات ربما يعزف عنها البعض؛ فكيف جسرت عليها، وما الفخاخ التي تجنّبتها أثناء الكتابة؟

أعترف معك أن المنطقة شائكة، وما يجعل منطقةً مثل هذه شائكةً في رأيي أمران: الأول السياق الثقافي المصري الذي يُفضّل أن تبقى موضوعاتٌ بعينها خارج النقاش أو التناول الفني، والأمر الثاني أن هناك أعمالًا تناولت عالم الرهبنة أو الأقباط بابتذال، ولأنها في بعض حالاتها خادعة وماكرة فقد بدت—أو حاولت أن تدّعي زورًا—أنها روايات جريئة تكشف أسرار عالمٍ غامض، وتوسّع دائرة الموضوعات الفنية وتحاول تمثيل الأقليات أو تاريخها، بينما هي في واقع الأمر تُداعب وتُغذّي الخيالات والصورة النمطية أو النزعات المتعصبة عن الأقباط وتستثمرها بدلًا من أن تقدّم معرفةً أو كشفًا حقيقيًّا، إذًا لا توجد فخاخ إذا كانت النيّة صادقة، وليست هناك أيّ نيةٍ للابتذال.
أنا لا أضع في حسباني أبدًا "الشائك" و"الناعم" في اختيار الموضوعات؛ فأنا حين أتشبّع بهمٍّ ما لا أستطيع إلا أن أكتبه، وحين لا أمتلئ به لا أستطيع أن أكتب عنه حتى صفحةً واحدة. أنا أكتب لنفسي في المقام الأول، وهذا عادةً يكفيني ويُسعدني، لكن حين أجد قارئًا تفاعل بحريةٍ وصدقٍ مع ما كتبتُ أكون أكثر سعادة.

سؤالٌ قد يتبادر إلى ذهن القارئ: هل لهذه المخطوطة التي عثر عليها البطل وجودٌ فعلي؟ أو على الأقل: هل يوجد نوعٌ من المخطوطات المسيحية يحمل هذه النوعية من القصص؟

هناك قرّاء أرسلوا لي رسائل، ومنهم من هاتفوني للاستفسار عن هذا السؤال، وحين أخبرهم أن الرواية من تأليفي، يتعجّبون، وأشعر أنهم لا يصدّقون ذلك، وربما يكون معهم حق.

مينا عادل جيد
مينا عادل جيد

 

تبدأ الرواية بما يطلق عليه النقّاد "القصة الإطار" لشابٍّ يعثر على مخطوطة في بيتٍ قديم، ثم ينتهي هذا الشاب مع بداية سرد ما في المخطوطة من أحداث. ألم تفكّر في أن تستمر "القصة الإطار" على مدار الرواية؟

بعد أن انتهيتُ من كتابة أحداث الرواية، التي تدور بالكامل بين القرنين السادس والسابع الميلاديين، كنتُ في زيارةٍ لأسرتي في المنيا، أجلس على مقهًى يطلّ مباشرةً على النيل وأراجع المخطوط، هناك خطرت لي فكرة "القصة الإطار"، مستوحاةً من تجربتي الشخصية واهتمامي الأنثروبولوجي بالأبواب الخشبية القديمة في الصعيد، كتمهيدٍ للقارئ قبل أن يدخل هذا العالم البعيد زمانيًّا وثقافيًّا ولغويًّا، أمّا عن سبب عدم عودة "القصة الإطار" وسط الأحداث فالأمر بسيط: لم أحبّ يومًا هذا الأسلوب حين أقرأه. كنتُ دائمًا أشعر أن عودة صوت الحاضر تقطع انسجامي مع عالم الرواية الغريب والمثير، لذلك فضّلتُ ترك القارئ يعيش فيه حتى النهاية دون مقاطعة.

لقد رأيتُ طيفًا من «دون كيخوته» في الرواية في شخصية الراهب شيشاي… هل تتفق معي في ذلك؟

طبعًا. أنا متأثّر بـ"دون كيخوته" لسرفانتيس، حتى إنني أذكره صراحةً في "القصة الإطار" مع أعمالٍ أخرى أردتُ أن أؤكد ذكرَها تقديرًا لدورها وتأثيرها الفني فيَّ، وبالمناسبة، فإن أبطالي في الأعمال الروائية الثلاث الأخيرة—"جزيرة إلخ إلخ"، و"الأستاذ بشير الكحلي"، و"سقوط أوراق التين"—بهم طيف "دون كيخوتي" لا تُخطئه عين، فثلاثتهم يأخذون قراراتٍ مصيرية لبدء رحلةٍ تغيّر شكل واتجاه حياتهم لأسبابٍ واهية، بطل "جزيرة إلخ إلخ" (طفو)—تاجر السكر والباحث العلمي— وجد جوالًا مليئًا بالكنوز، وفي قعره شيء "إذا شدّه يشدّ، وإذا مطّه يمطّ، وإذا تركه عاد كما كان"، فترك أسرته وعمله والكنوز وخرج في رحلةٍ ليبحث عن أصل هذا الشيء العجيب الذي بلا معنى، و"الأستاذ بشير الكحلي"، أستاذ التربية الرياضية متضخّم الذات، قرّر أن يتحمّل على عاتقه مهمةً سلطويةً متعاليةً وعبثية (غير معقولة): أن يتقدّم لمجلس الشعب بمشروع قانون لتغيير أسماء المصريين لأنها صارت — في رأيه —أسماء غير وطنية أو محترمة، وهي التي تقف حائلًا أمام تقدّم الوطن وازدهاره، وشيشاي، بطل "سقوط أوراق التين"، قرّر أن يدخل الرهبنة لا حبًّا في النُّسك في المقام الأول، بل ليصنع المعجزات ويقطف ثمار القداسة ويُحضر لأهله "تين الفردوس" الذي هو— كما سمع عنه—"كبير وحلو وله رائحة لذيذة".

في الرواية تميل إلى استخدام لغةٍ أشبه بلغة الترجمات الكنسيّة للمخطوطات القديمة. أكان اختيار هذه اللغة مجازفةً نظرًا لغرابتها بعض الشيء عن القارئ العام؟

معك حق، هي مجازفة، فالمجهود الأكبر الذي بذلتُه في هذه الرواية هو أن أصوغ لغةً جديدةً للرواية تكون أقرب للغة الترجمات عن القبطيّة أو اليونانية إلى العربية، والتي حاولتُ التشبّع منها قبل بدء الكتابة. فهي—لا أعرف كيف أصفها ولكن سأحاول—ركيكةٌ "ركاكةً مرحة وبليغة"، تختلف في تركيب الجملة وترتيبها واختيار مفرداتها المحمّلة بالمزاج القبطيّ المعرَّب، وربما كان من أدوار "القصة الإطار" أن تُبيّن الفرق بين لغة الكاتب المعاصر العادية ولغة الترجمة للنصّ التاريخي عن القبطيّة. لم ألعب "لعبة اللغة" هنا للمرة الأولى؛ فقد جرّبتُها بشجاعةٍ أولًا في روايتي "جزيرة إلخ إلخ"، لأن الرواية تدور في عالمٍ بلا زمان وبلا مكان عن جزيرةٍ كلّ سكانها من التوائم الملتصقة، لهم رأسان حتى إنهم لا يعرفون أن هناك بشرًا غير ملتصقين. فكان عليّ أن أبتكر لغةً (وخاصةً في الحوار) تناسب هذا التكوين الفسيولوجي (رأسان لجسدٍ واحد)، فكانت الجملة الواحدة في الحوار تُقال مرّتين للتأكيد عليها، بترتيبٍ مختلف قليلًا وغالبًا بالمفردات نفسها، مثل: "كيف حال متجر السكر؟ متجر السكر المسكّر كيف حاله؟" أو "كاتو تريد أن تصبح طبيبة. طبيبة تُعالج الناس". وبناءً على ذلك صارت الشخصيةُ المتمرّدة في الرواية هي التي—لكلّ رأسٍ فيها—رأيٌ خاص ومفرداتٌ مختلفة، وهو ما كان يُعدّ في أعراف أهل الجزيرة جريمةً وهرطقةً لا تُغتفر، وهذا الابتكار المغامر لصناعة لغةٍ خاصةٍ لرواية (بشرط أن تتحمّل الرواية ذلك وتُحرّض عليه) تعلّمتُه من وليم فوكنر في روايته "الصخب والعنف". فهي روايةُ أصوات؛ كل فصلٍ يحكي الأحداث من منظورٍ مختلف، إلا أن فوكنر يفتتحها بالفصل الأول الذي يروي أحداث القصة بصوت "بِنجي" الذي لديه إعاقةٌ عقليةٌ شديدة—يسمع لكنه لا يتكلّم—ولا يملك سوى الصراخ والعويل. ولأنه محدود الإدراك فلغته في السرد مجزّأةٌ وغير خطيّة، وتتنتقل بلا ترتيبٍ زمني واضح، مما يعكس طريقته في إدراك العالم؛ فما وقع قبل عشرين عامًا وما وقع اليوم عنده على القدر نفسه من الأهمية والوضوح، وكل ما يذكره يرويه ويكرّره وكأنه يراه لأول مرة. تخيّل أن تعرف الأحداث داخل عقل "مجنون"؟ نعم، هذا يجعل البداية مربكةً للغاية لكنها جوهريةٌ في بناء الرواية.

مينا عادل
مينا عادل

 

هذا هو العمل الرابع لك؛ فكيف اختلف المشهد الروائي على مدار تجربتك؟ كيف استقبل النقّاد هذه الرواية، وماذا عن ردود الأفعال؟

الرواية نُشرت منذ أكثر من سبعة أشهر، وهذا هو الحوار الأوّل الذي أجريه عنها. وكتب عنها بعض الأساتذة، مثل الأستاذ علي عطا المتحمّس دومًا لمغامراتي، والأستاذ أشرف العشماوي الذي كان له دور كبير في ظهور هذه الرواية. كما أنني تلقيتُ مكالماتٍ هاتفية من أساتذةٍ زملاء أثنَوا فيها على الرواية، منهم الروائي محمد إسماعيل عمر الذي كنتُ قد حدّثته عن الرواية أثناء كتابتها حين التقينا في باريس العام الماضي، وقد أسعدني برأيه بعد قراءتها، وبكونه وضع الرواية كنموذجٍ لطلبته في ورشة الرواية التي يقدّمها في مصر وباريس.

كما تلقيتُ مكالمةً طويلة من الروائي والصحفي وائل السمري، في مبادرةٍ كريمةٍ وطيّبة—إذ لم نكن قد تحدّثنا من قبل—أثنى فيها على الرواية وفنّدها تفنيدًا رائعًا نتيجة قراءةٍ استثنائيةٍ لها. كما تفاجأتُ بالصديق الروائي إبراهيم أحمد عيسى يُناقشها في ورشة الرواية التاريخية التي أقامها في مكتبة الإسكندرية كنموذجٍ سردي. أمّا عن اختلاف المشهد الروائي في تجربتي، فأنا أعرف أنني مُحيِّرٌ للقرّاء والنقّاد؛ فكلّما أثرتُ اهتمامًا بتجربةٍ ابتعدتُ عنها في العمل التالي، ويكون ذلك كأنه بدايةٌ من أوّل مرة. ولكني أفضّل ألّا أكرّر تجربةً لاقت استحسانًا عند القرّاء والنقّاد.

وأبرز ما تغيّر في تجربتي أنني بدأتُ بأعمالٍ أدبية ربما كانت مشغولةً بالأسلوب "المحفوظي" (نسبةً إلى الأستاذ نجيب محفوظ) ومهمومةً بأن تصكّ جُملًا حكيمة، إلى أن انقلبتُ على هذا الأسلوب إلى عوالم أقرب إلى الفلسفة العبثية (اللامعقول) التي تُعرّي لا معقوليتنا نحن والعالم—العالم الذي أراه ينحدر نحو الجنون يومًا بعد يوم—عوالمَ يهتمّ أبطالها بصغائر الأمور متجاهلين الهامّ والمصيريّ منها، وتحرص على الامتناع—بقدر المستطاع—عن قول جُملٍ حكيمة، إلا أن الحكمة تكمن في النهاية؛ تكمن في «تكثيف اللاحكمة». وأتعجّب حين أرى أن القرّاء ينشرون على السوشيال ميديا اقتباساتٍ من هذه الأعمال باعتبارها "حكمة"، وأنا أساسًا كتبتُها في سياقٍ تقريبًا جنونيٍّ محض.

تحتلّ فكرةُ الصراع مع الشيطان مساحةً كبيرةً في الرواية، وبرغم أن روايتك صاغت الفكرة بشكلٍ مُفارِق، ألم تخشَ أن يُقارن البعض بينها وبين رواية «عزازيل» ليوسف زيدان؟

لم أقرأ رواية "عزازيل" كاملة، ولكني أستطيع أن أقول إنني استفدتُ كثيرًا من رواية "إغواء القديس أنطونيوس" للكاتب الفرنسي الكبير جوستاف فلوبير، صاحب رواية "مدام بوفاري"، وهو عمل غير شهيرٍ بين قرّاء العربية على الأقل، والرواية عن القديس المصري الأنبا أنطونيوس، مؤسّس الرهبنة في مصر ومنها إلى العالم. تدور أحداث الرواية في ليلةٍ واحدة مستعرضةً حروب الشيطان للقديس أنطونيوس المتوحّد في الصحراء، إذ تنهال عليه سلسلةٌ من الإغواءات والهلاوس، وشهوات الجسد، وغواية السلطة والجاه، وإغراءات "العلم الزائف" بالنسبة لراهبٍ متوحّد، كما أن الشيطان يوسوس له بشكوكٍ في العقيدة نفسها، ويصوّر له رؤيةَ كائناتٍ غريبة؛ حتى إن سلفادور دالي رسم لوحته الشهيرة بالاسم نفسه متأثرًا بعوالمها السريالية، وكان قد كتب القديس أثناسيوس الكبير، بطريرك الإسكندرية في القرن الرابع الميلادي، نصًّا باليونانية بعنوان "حياة أنطونيوس" نحو سنة 360م، بعد نياحة القديس الأنبا أنطونيوس، وأرسلها إلى الغرب المسيحي.

أشعلت هذه السيرة حماس وخيال المسيحيين في الغرب، ويكفي أن نذكر أن القديس أوغسطينوس، في كتابه الشهير "الاعترافات"، يروي أن قراءة سيرة القديس أنطونيوس كانت من اللحظات الفاصلة التي دفعته إلى ترك حياته السابقة والدخول في سلك الحياة المسيحية، وهو الذي قامت على كتاباته معظم الفلسفة اللاهوتية الغربية، كما ألهمت سيرة القديس أنطونيوس العديد من الفنانين الغربيين عبر القرون، ومنهم فلوبير.

تتناول الرواية ما يُعدّ «تفكيكًا» لفكرة «القداسة». ألم تخشَ من ردود الأفعال المتعجّلة كما حدث مع «عزازيل» وقت صدورها؟

ربما يكون في الرواية ما يمكن اعتباره تفكيكًا لفكرة "القداسة"، وذلك إذا كنا نقف— أنت وأنا —على مفهومٍ واحدٍ للتفكيك، أنا أميل إلى ما يقدّمه جاك دريدا عن التفكيك، الذي أخبرنا في كتابه «الكتابة والاختلاف» عن كلّ ما هو ليس تفكيكًا: ليس تحليلًا، ولا تفنيدًا، ولا تفكيكًا إلى عناصر بسيطة أولى، وليس حتى نقدًا بالمعنى التقليدي، وعن كيف أُسيء فهم التفكيك. إلا أنه لم يبلّ ريقنا في النهاية بما هو التفكيك! ولكننا يمكن أن نرى، بين ثنايا متاهات دريدا وتفكيكه، أن التفكيك عمليةٌ لكشف التناقضات داخل الخطاب، وفضح الافتراضات الخفية التي يقوم عليها، ولكن هنا مشكلةٌ أخرى؛ إذ إن دريدا يؤكد أنه لا يحبّ التعريفات الجاهزة ويرفضها. انظر، يبدو أنني أنا الآخر أصلح لأن أكون «تفكيكيًّا»، خاصةً أنني أعرف بعضًا من الفرنسية!

هل هذه الرواية تُعدّ روايةً تاريخية أم روايةً خيالية ذات إطارٍ تاريخي؟ وما صعوبات الكتابة في هذه النوعية؟

لا، ليست روايةً تاريخية؛ بل تتّخذ من القرن السابع الميلادي وعالم الرهبنة مسرحًا لها، لأنه تراثي في المقام الأول، وفي تقديري هي البيئة الأكثر ملاءمةً لطرح وتطوير ما كنتُ أريد تناوله عبر عملٍ أدبي، هي روايةٌ تطرح في الأساس سؤال الشرّ—وهو سؤالٌ وجودي—وما معنى الحياة إذا كان لها معنى، وتستعرض—بين حينٍ وآخر—رؤى الفلاسفة الذين، بعد أن آمنوا بأن الحياة عبثيّةٌ وفوضويّة وليس لها معنى، طرحوا الحلول، فمثلًا تُفتتح الرواية بمشهدٍ لشيشاي يحاول ذبح «هَدرا»، الصبيّ الصغير الذي في مقام ابنه، على مذبحٍ ليقدّمه محرقةً إلى الرب، لأن "ملاك الرب" أخبره في رؤية ليلةِ أمس بأن يقدّم الصبي لينال "كرامة إبراهيم"، وهذا المثال من الكتاب المقدّس يستدعيه كيركجارد، الفيلسوف المسيحي المتديّن، الذي اعترف أن الحياة عبثيةٌ وبلا معنى، إلا أنه ينصحنا بأننا سنجد المعنى من خلال "وثبةٍ واثقةٍ بين يدي الله"، أي الإيمان، يرى كيركجارد في قصة إبراهيم المثال المثالي لتوضيح فلسفته: الله يعد إبراهيم بنسلٍ مثل حبات الرمل على الأرض، ثم يأمره بقتل الابن، أيُّ معنًى في هذا، أو معقولٌ يمكن إثباته بالعقل؟ لا يوجد تقريبًا.

يريد كيركجارد أن يقول: إذا كانت الحياة محكومةً بالموت واللايقين، فإن الإيمان (مثل إيمان إبراهيم) هو ما يعطيها غايةً تتجاوز العقل. ونيتشه اعتقد أن الحياة خاليةٌ من المعنى الحقيقي، لكنه يرى أننا يمكن أن نعطيها نوعًا من المعنى من خلال الفنّ أو تبنّي الوهم (لاحظ أوهام شيشاي طوال حياته)، نتعلّم من الفنانين كيف نمنح الأشياء التي بلا معنى مظهرًا له معنى وربما جمالًا. وسارتر، مثل نيتشه، يرفض المعنى الجاهز، لكنه لا يرى أن الفنّ ملاذٌ كافٍ؛ المعنى عنده في اختيارات الإنسان، فيما يصنعه بيده ووعيه وأفعاله، أمّا كامو، ففي كتابه المهم "أسطورة سيزيف"، يستدعي الأسطورة من الميثولوجيا الإغريقية: سيزيف الذي حَكمَت عليه الآلهة أن يدحرج صخرةً ضخمةً إلى قمة جبل، وكلما اقترب من القمّة تتدحرج الصخرةُ إلى الأسفل، ويعيد الكرّة إلى الأبد، كامو يقول: إن الحياة ليس لها معنى. وما الحل؟ الانتحار ليس حلًّا، بل إنه يفتتح كتابه بهذه الجملة: «ليس هناك سوى مشكلةٍ فلسفيةٍ واحدةٍ هامّة حقًّا: وهي الانتحار». ويختم كتابه بقوله: Il faut imaginer Sisyphe heureux — «علينا أن نتخيّل أن سيزيف سعيد، وتختتم الرواية، في فصلها الأخير، بالإشارة إلى رأي كامو.


أمّا روايتي "سقوط أوراق التين" فتحاول أن تطرح حلًّا آخر لمواجهة حياةٍ بلا معنى، يعرف شيشاي (وإن أدرك ذلك متأخرًا) أن الحياة شريرة، ويصف الوضع الإنساني بـ"بؤس الإنسانية"، ويسأل—ضمن أسئلته الأخرى—"اللهَ المعزّي عن المغزى؟ من موت الأطفال جوعًا"، وتعترف الرواية بأن "الأشياء بطبيعتها تميل إلى التبعثر والتنافر والكركبة والفوضى واللا معنى"، لكنها تقترح حيلةً للخلاص من هذه الفوضى: "خلق النظام"، مؤكّدةً أن المعنى ليس مُعطًى، بل يُصنَع. ولعلّ هذا المقطع من الكتاب الخامس من كتب الرواية السبعة يوضّح ما أحاول قوله: "مهمّة الإنسان الصعبة لمواجهة الفوضى هي خلق النظام، وفي النظام يكون المعنى، والمعنى ليس مهمّة أيّ مخلوقٍ آخر كان، حتى الملائكة؛ المعنى مسؤولية الإنسان وحده. وليس النظام بالمهمّة السهلة، إنّه في الأساس كان مسؤوليةً إلهيّة وورثناها".
انظرْ… حتى أنا أقتبس من أعمالي العبثية وكأن بها "حكمة".


 

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

القادسية يقرر التصعيد بسبب أزمة كأس السوبر السعودى

الصفحة الرسمية لمنتخب مصر: "استاد القاهرة هيتلون بعلم مصر 5 سبتمبر أمام إثيوبيا"

مكتب التنسيق: إتاحة الفرصة للطالبة عائشة أحمد بإعادة ترتيب الرغبات مرة أخرى

الداخلية تضبط متهما زعم صلته بتجار مخدرات وآثار واستعداده لتقديم معلومات عنهم

بعد إعلان رؤية هلال ربيع الأول.. تعرف على موعد المولد النبوى الشريف 1447


نائب رئيس مجلس الوزراء يقرر تكريم عامل مزلقان بني سويف لشجاعته

رافعين الأعلام.. الجالية المصرية بالنمسا ينظمون وقفة لدعم مصر وقيادتها.. فيديو

أول تعليق من بيب جوارديولا بعد خسارة مان سيتى ضد توتنهام

تشكيل برشلونة المتوقع أمام ليفانتي في الجولة الثانية من الليجا

ريبيرو يستقر على قيادة كريم فؤاد للجبهة اليسري للأهلى أمام المحلة


"23 أغسطس" فى ذاكرة الحركة الوطنية.. يوم تتقاطع فيه مسارات زعماء الوفد.. وفاة سعد زغلول ومصطفى النحاس.. وإحياء الحزب بعد سنوات من التجميد على يد فؤاد سراج الدين

إسرائيليون من أمام مقر إقامة رئيس وزراء الاحتلال: نتنياهو سيقتل الرهائن فى غزة

محمد صلاح ضمن أفضل هدافى القرن الحادى والعشرين عالميًا.. ميسي يتصدر

سيدة تطالب بتعويض 20 مليون جنيه من الزمالك لظهور رقمها في إعلان "الدباغ"

مصدر ينفي شائعات استعداد أنجلينا جولي لنشر مذكرات تكشف أسرار حياتها

وزيرة البيئة: احتواء بقعة زيتية خفيفة بالنيل.. ومحطات مياه الشرب لم تتأثر

أخبار مصر.. التموين تطرح السكر بمنافذ المجمعات الاستهلاكية بعد تخفيض الأسعار

الأهلي يستعد لعقد "جمعية خاصة" 12 سبتمبر وإجراء الانتخابات في أكتوبر

براد بيت يعود للعمل بعد وفاة والدته.. تقرير: يتصرف بمهنية رغم المأساة الشخصية

أحمد حمدي يخضع لاختبار طبى فى الزمالك بعد إصابته فى الأمامية

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى