أبناء ولكن.. عندما تنسى الأم حضنها فى قاعة المحكمة

في السنوات الأخيرة، تغير وجه كثير من البيوت المصرية، ولم يعد البيت عامرًا كما كان؛ لا الأم حاضرة، ولا الأب موجود، والطفل بينهما ضائع لا يعلم بأي ذنب يُنسى، وأصبحت بعض الأمهات –وللأسف– منشغلات بملاحقة الأزواج في ساحات القضاء، حتى باتت المحاكم تشهد كل يوم قصصًا من النزاع والخصام، بينما الأبناء يجلسون وحدهم في ركن معتم من البيت، لا يسمعون سوى صدى الخصام.
ليست المشكلة في طلب الحقوق، فالقانون وُضع ليحفظ الكرامة ويُنصف المظلوم. لكن الكارثة تبدأ حين تُختزل الأمومة في صك نفقة، أو قرار ضم حضانة، أو تقرير طبي يُثبت العنف، ويتحول الطفل من روح تحتاج للحب والاهتمام، إلى ورقة ضغط تُستعمل في كسب معركة قضائية، حينها تصبح الأمومة مجرد صفة بيولوجية لا تتجاوز أوراق الميلاد.
لا يُمكن أن ننكر أن هناك آباءً قساة، ظلموا زوجاتهم، وهربوا من مسؤولياتهم، وتركوا خلفهم أمًا وحيدة وأطفالاً ضائعين، لكن الوجه الآخر للصورة –الذي يتجنب البعض الحديث عنه– هو وجود أمهات استبدلن العطف بالمحاماة، والحنان بالدعوى القضائية.. أمهات أصبحن يقمن بدور المحامي أكثر من دور الأم. تتابع الجلسات وتطلب الأوراق وتعد القضايا، بينما طفلها لا يجد من يعد له وجبته، أو يسأله عن دروسه، أو يمسح دموعه إذا بكى. هذا الغياب النفسي والعاطفي يترك آثارًا لا تُمحى.
الطفل الذي ينشأ في بيئة مشحونة بالخلافات، محرومًا من دفء أمه، لا يتعلم الحب، ولا يعرف الأمان. يكبر وهو يحمل في قلبه فراغًا عميقًا، وشعورًا دائمًا بعدم الأهمية، بل إن كثيرًا من الأطفال الذين عايشوا مثل هذه التجارب، انتهى بهم الحال إلى طريق الانحراف، أو التبلد، أو الحقد على المجتمع.
ثمّة من ترى أن هذا حديث عاطفي لا يراعي الواقع، وأن المرأة التي تُهجر وتُظلم وتُهان، من حقها أن تدافع عن نفسها وتسترد حقوقها، وهذا قول لا خلاف عليه، لكنه لا يُلغي أن للأم دورًا لا يجب أن يُغفل، فالأمومة ليست وظيفة بدوام كامل تُستبدل بمحضر رسمي، وليست علاقة مشروطة بحجم النفقة. إنها رابطة فطرية تُمارس رغم الظروف، ورغم التعب، لأنها في النهاية مسؤولية لا يُمكن التنازل عنها.
أين ذهبت تلك الأم التي كانت تحضن طفلها في أول يوم دراسي؟ أين تلك اليد التي كانت تُعدل ياقة قميصه، وتغرس فيه الثقة؟ كيف تحوّلت إلى امرأة تقضي معظم وقتها في مكاتب المحامين، وتنسى أن ثمة قلبًا صغيرًا يحتاج فقط إلى كلمة "أنا معك"؟ بل إن بعض الأطفال صاروا يُستعملون أدوات صراع؛ تُمنع عنهم الزيارة، أو يُحرّضون على آبائهم، أو يُجبرون على قول ما لا يشعرون به.
هل نطلب من الأمهات أن يصبرن على الظلم؟ أبدًا، ولكننا نطلب أن يتذكرن أن دورهن لا يجب أن يضيع وسط المعارك، وأن الحقوق لا تُنال على حساب الأبناء، وأن المحاكم قد تُنصفك يومًا، لكن من يُنصف طفلك من غيابك؟ من يُعيد له دفء صدرك؟ من يمنحه الأمان إذا كان كل ما حوله صار قلقًا ونزاعًا ومرافعات؟ الأم هي الحضن الأول، والملجأ الأخير، وإذا تخلّت عنه بإرادتها، فلن تُعوّضه أي نفقة، ولا أي حكم بالحضانة، لأن الطفولة لا تنتظر، والحب لا يُؤجل إلى ما بعد الحكم، فليكن القانون في جانبك، لكن لا تجعلي قلب ابنك يقف ضدك، وعلى كل أم أن تتذكر في لحظات المواجهة أن هناك قلبًا أمامها يترقب لمسة، وبأن كل دعوى، وكل جلسة، وكل كلمة تُقال في محكمة، لها وقعها في قلب هذا الطفل.

Trending Plus