أسفار الحج (11).. "المصرى" أول من صور الكعبة والمسجد النبوى

من منا لا يحلم بأن تتكحل عيناه برؤية الكعبة المكرمة؟! ومن منا لم تغلب عليه أحلامه بآداء الركن الخامس من أركان الإسلام (الحج الأكبر)؟! ومن منا لم تتوق نفسه، ويخفق قلبه ولعا بزيارة حبيب الله سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وبارك؟!...فهل سأل أحا منا نفسه كيف انتقلت صورة الكعبة الحرام وتوثقت بذاكرتنا البصرية؟ فلم يكن لدى المصريون صورة حقيقية مطابقة للواقع عن الكعبة المشرفة سوى من تلك الرسومات "الجرافيتى" التى يرسمها بالجير المعجون بالالوان هؤلاء الأهل والأحباب وجيران القرية والحارة المصرية استقبالا للحاج الذى شرف ميعاد عودته من أطهر رحلات السفر فى قلوب المصريين، والسؤال السقراطى ـ الذى يفند المركبات ويعيدها الى جزيئاتهاـ هو ومن أين عرف هؤلاء المصريون صورة البيت الكريم؟ ... فيأتى الرد التلقائى من خلال قيام أوائل الزوار من المصريين للبيت العتيق، وعند عودتهم تباركوا برسمه على هيئته على جدران منازلهم داخلها وخارجها تيمننا وتباركا برسم الكعبة ومسجدها نقشا على جدرانهم كما نقش الآباء الأولون مناحى حياتهم على المعابد والمسلات ليعرفوا القادم من الأجيال مباهج حياة الأولين.
وبالتالى كان استقبال المصريون للمصطفين منهم بالحج عند عودتهم يقوموا برسم الكعبة على جدران المنازل بل وعلى امتداد منازلهم (!).
إنما ظلت هيئة البيت المكرم رسما وفقط فى وجدان المصريين حتى اخترع جاك ماندية داجير آلاته الفوتوغرافية التى نعرفها "الكاميرا" فى 1839 ولم يمض سوى شهران وحيدان حتى انتقلت واحدة من مظاهر المدنية الحديثة إلى مصر وعرف المصريون الكاميرا ومارسوا التصوير قبل الكثير والمعظم من شعوب العالم وبالطبع قبل نصف الكرة الجنوبى قاطبة (!) إذ التُقطت أول صورة فوتوغرافية وكانت فى الإسكندرية فى 4 نوفمبر 1839 لمحمد علي باشا فى قصر رأس التين؛ وبالمناسبة تلك المدينة أيضا كانت سباقة بعد فرنسا مباشرة فى تصوير أول فيلم سينمائى فكان فيلم "المندوبان" مايو 1934 قصة وسيناريو وإنتاج وإخراج توجو مزراحى، وحوار بديع خيرى. وانتشرت بوسترات الفيلم بعنوان: "توجو مزراحى يقدم فيلمه المضحك يوم الخميس 17 مايو سنة 1934، فى سينما فؤاد بمصر، وفى داركم المصرية الكوزموجراف الأمريكانى بالإسكندرية، وستشجيكم المطربة الفنانة بصوتها العذب الحنون الآنسة سهام، ويشترك فى التمثيل فوزى واحسانه الجزايرلى وشالوم وعبده محرم "... ونعود للسبق المصرى فى تصوير الحرمين الشريفين وكانت هى المرة الأولى فى التاريخ الذى يتم فيها تصوير الحرمين "المسجد المكى والمسجد النبوى" لكن القصة تبدأ عند هذا المصرى الذى نال شرف تصوير الحرم المكى وهو محمد صادق الشاب اليافع والمولع بالحياة العسكرية والمشغول عقله بعلوم الهندسة وإنما هواه كان مفتونا بفن آخر يعشقه ويجعله رفيقه فى دروب حياته أينما ارتحا وحلّ.
ولد محمد صادق فى القاهرة 1822 والتحق بالمدرسة الحربية بالخانكة التي صقلت فيه العديد من المواهب؛ فطلبة المدرسة الحربية لم تكن دراستهم قاصرة على فنون القتال والاستراتيجيات العسكرية فحسب، بل كانوا أيضًا يدرسون الرسم والطبوغرافيا وتقنيات رسم الخرائط والمساحة، ولنبوغ صادق باشا وتفوقه تم اختياره ليكون من ضمن أعضاء البعثة العلمية المسافرة إلى باريس ليتلقى فنون الحربية هناك، وكان برفقته فى هذه البعثة اثنان من أبناء إبراهيم باشا بن محمد على؛ هما الأمير إسماعيل ـ فيما بعد الخديوى اسماعيل ـ والأمير أحمد، ثم عاد إلى مصر في عهد محمد سعيد باشا وعُين مدرسًا للرسم في المدرسة الحربية بالقلعة وكان مديرها رفاعة الطهطاوى حينذاك.
فى 1860 كانت الزيارة الأولى لمحمد صادق بصحبة والي مصر محمد سعيد باشا، ودوَّن تفاصيل الرحلة في كتاب "نبذة في استكشاف طريق الأرض الحجازية من الوجه وينبع البحر إلى المدينة النبوية وبيان خريطتها العسكرية"، وطبع الكتاب بمطبعة عموم أركان حرب بديوان الجهادية سنة 1294هـ.
فى هذه المأمورية سافر محمد صادق إلى الأراضي الحجازية فى مهمة رسمية من مصر عبر السويس وسيناء إلى المدينة المنورة ثم ميناء الوجه لإجراء مسح تفصيلي للمسار، وكوّن فريقًا مصغرا وحمل معه بعض معدات المسح إضافة إلى آلة تصويره الشخصية؛ وبدأت الرحلة يوم الثلاثاء 11 رجب 1277هـ من وابور البر - القطار- متجهًا إلى السويس، ومنها اتجه بوابور البحر - الباخرة - إلى ميناء الوجه، ومنها أخذوا الجمال وبدأوا في سيرهم باتجاه المدينة المنورة، وأخذ محمد صادق يصف معالم الطريق المؤدي إلى المدينة المنورة بعناية ودقة بالغة فيصف وعورة الجبال وانحناءاتها وما يشاهده من قلاع وتحصينات ومحطات القوافل وأسماء القبائل وغيرها من التفاصيل الدقيقة المزودة بقياسات دقيقة لاعتماده على مجموعة من أدوات القياس الجديدة آنذاك، ومع أن التصوير لم يكن جزءا من المهمة صارت سجلاته الخاصة بالبعثة أولى الروايات المفصلة والمعروفة عن مناخ المنطقة والتجمعات السكانية، وفى المدينة المنورة كانت أوليات صوره للمدينة المنورة وهي الأولى على الإطلاق ـ تاريخيا ـ الملتقطة عن المسجد النبوى.
ويصف محمد صادق عبر كتابه أنه عندما وصل إلى الحرم النبوي أخذ فى وصف عمارة المسجد النبوى وتصميمات أبوابه وأعدادها ووجهة كل منها، وبالنسبة لأول صورة فوتوغرافية للحرم النبوى الشريف يقول:"هذا وقد أخذت خريطة الحرم السطحية بالضبط والتفصيل ووضعت هنا صورتها باعتبار المترسنتو – يقصد السنتيمتر- وأخذت كذلك رسم المدينة المنورة بواسطة الآلة الشعاعية المسماة بالفوتوغرافية مع قبة المقام الشريف والمنارات جاعلاً نقطة منظر المدينة من فوق الطوبخانة حسبما استنسبته لكي يحوز جزءًا من المناخة أيضًا، وأما منظر القبة الشريفة فقد أخذته من داخل الحرم بالآلة المذكورة أيضًا، وما سبقنى أحد لأخذ هذه الرسومات بهذه الآلة أصلاً"... وفى اعتقادى يُعد هذا الكتاب هو التوثيق التاريخى لهذا الحدث الجلل.
وعاد من مهمته تلك ليقدم خرائط ورسومات دقيقة عن طرق ومسارات السفر من مصر إلى المدينة ومن المدينة إلى مكة ثم العودة إلى مصر واصفا طبيعة جغرافيا الأماكن وأهلها وأجوائها وعموم بيئاتها.
ونستكمل فى القادم ان شاء الله رحلة تصوير الحرمين الشريفين.

Trending Plus