نجيب محفوظ ومحاولة الاغتيال.. ولادة جديدة لصاحب نوبل

استكشف العالم مرة أخرى بتعلم الكتابة.. وتمرد على العجز بـ "أحلام فترة النقاهة
يحيى الرخاوي ساعده على تجاوز الأزمة "نفسيًا".. والحادث لم يؤثر على إيمانه بعظمة الشعب المصري
"رأيته يخرج من المنزل بابتسامته العريضة نزلت من العربة، حييته وفتحت له الباب الآخر ليجلس بجانبي. استدرت وتوجهت إلى الناحية الأخرى، وما أن تهيأت للجلوس على مقعد القيادة حتى رأيت شابا ينحنى عليه. ظننت أنه أحد المعجبين يريد تحيته. لكنى رأيت جسد نجيب محفوظ يهتز هزة شديدة، فانتبهت إلى أن هذا الشاب قد فعل شيئًا. خيل إلى أن الأديب الكبير قال "آه .. لكن في شموخ ودون أن ينحنى جسده. صرخت على الشاب إنت بتعمل إيه يا مجنون؟!.. رفع عينيه إلى، وكان بهما الكثير من الشر والتوتر والتهديد وأسرع بالفرار".. كانت هذه كلمات ووصف الدكتور فتحي هاشم، الذى كان مرافقًا للروائي العالمي نجيب محفوظ، في لحظة تعرضه للاغتيال، على يد أحد الإرهابيين أمام منزله، بحسب ما ذكرها الكاتب سعيد سالم في كتابه "نجيب محفوظ الإنسان".
نجيب محفوظ في المستشفى
وبقدر ما كانت محاولة الاغتيال مؤلمة، إلا أن بها قدرا أيضا من العبثية، التي طالما أبدع نجيب محفوظ في زرعها في روايته، وإلصاقها بشخصياته، فكانت المحاولة وكأنها مشهدًا من احدى رواياته، نتأمل منها نجيب محفوظ نفسه كحالة استثنائية في تاريخ هذا الوطن، لكن الأهم هو الوقوف عند حياة الأديب العالمي بعد محاولة الاغتيال، والنظر إليها باعتبارها مولدا جديدا له، تحمل في طياتها استكشافا جديدا للعالم، وتمردا مُدهشا على العجز.
كان نجيب محفوظ يُجل الموت فى رواياته، فنراه مُحاطًا بهالة من القداسة أحيانا، لكنه لا يتعامل معه باعتباره خط النهاية، بل يأتي في كثير من الأوقات كبداية جديدة، وهو ما ينطبق كذلك على يوم 14 أكتوبر 1994 الذى شهد مُحاولة اغتيال محفوظ، فالطعنة التي تلقاها الروائي الكبير في رقبته، لم تُهدد حياته فحسب، بل كادت تُهدد إبداعه أيضا، لكنها لم تفعل، ربما كانت تفعل ذلك مع شخص آخر، إلا أن الإرادة المذهلة التي تمتع بها نجيب محفوظ، جعلته يعتبر محاولة اغتياله، بداية جديدة، أو لنقل فصلا في روايته الكبرى.

بتأمل سن محفوظ لحظة محاولة الاغتيال، سنجد أنها كانت تقترب من الثانية والثمانين، ما يعنى أنه كان في ذروة مرحلة الشيخوخة، ومع ذلك، فقد قاوم محفوظ التأثير السلبى للطعن ومحاولة الاغتيال، ورغم عدم القدرة على الكتابة، إلا أنه حاول الكتابة بيده اليسرى كطفل صغير في بداية حياته، وقد يستعين بالأصدقاء والمُحبين لمساعدته على القراءة والكتابة، حتى الخروج بين الناس وفي الشوارع التي اعتاد ارتيادها، كان حريصا على ألا يقطع تلك العادة، وإن كانت تتبعه حراسة مُشددة في كل مكان، بل الأهم من كل ذلك، أنه استطاع أن ينجز رائعته "أحلام فترة النقاهة"، وهي واحدة من أبرز إبداعات نجيب محفوظ على الإطلاق.
كان من الممكن أن ينجح الاكتئاب فيما فشلت فيه محاولة الاغتيال، لكن حتى اكتئاب ما بعد الواقعة، نجح محفوظ في تخطيه، بفضل روحه المرحة التي تقفز على الصعاب دائما، وبفضل الإيقاع الروتيني الذى اعتاده منذ بداية حياته، وكذلك بفضل الأصدقاء الذين ساهموا في إزالة أثر العداون، مثل الدكتور يحيى الرخاوي، الذى كانت له إسهامات مؤثرة في رعاية نجيب محفوظ، باعتباره طبيبا نفسيا شهيرا، بل إن الدكتور يحيي وضع لنجيب محفوظ روتينا صارما، لأيام الأسبوع، يبدأ من الأحد بلقاء الأصدقاء حتى يوم الجمعة الذى يكون في منزل الرخاوي بالمقطم، بينما يكون السبت متروكا له.
نجيب محفوظ
هذه ليست قراءة ذاتية لشخصية نجيب محفوظ بعد حادث محاولة الاغتيال، ولكنها قناعات محفوظ نفسه، التي كشف عنها للكاتب الكبير محمد سلماوي، حيث لم يفقد إيمانه بأفكاره أو معتقداته، أو حتى إيمانه بالشعب المصري لمجرد أنه تعرض لحادث، بل العكس، ظل الإيمان راسخا في قلبه، إذ يقول: "لم أتأثر فى شيء، فإنى أجد أن ثقتى بهذا الشعب مازالت كما كانت ونظرتي للإرهاب ورفضى له مازال أيضًا كما كان، وإن كانت هناك ضرورات إجرائية فُرضت عليّ ولم أخترها وهي ضيق يجب أن أتحمله، لكنها لا تتصل من قريب أو بعيد بقناعاتي الأساسية بهذا البلد ولم تغير معرفتي بشعبه".
بينما يقول لأفريد فرج: "المصريون من الشعوب المتدينة جدًا، ويغلب عليهم التعلق بالطقوس والمراسم والعادات الدينية.. وإن أى نقائص فى الشخصية المصرية - كالقدرية وندرة الروح العلمية، وأيضًا السلبية فى كثير من الأحيان - إنما ترجع إلى ما ورثته هذه الشخصية من عهود الظلام التى شملتها لآلاف السنين".

Trending Plus