تكاد الخفّة أن تودى بالقضية.. عندما يتكالب الإخوان على فلسطين من ثلاث جهات أو يزيد

حازم حسين
حازم حسين
حازم حسين

ما يطفو على سطح الأحداث ليس بالضرورة أن يكون من نسيج ما يعتمل ويتخلق فى كواليسها. للعملة وجهان تتعذر إحاطتهما فى نظرة واحدة، لكنها لا تكتسب قيمتها وقوة الإبراء الكاملة إلا بهما معا. والتقابل بينهما لا يعبر عن تضاد أو قطيعة، إنما عن ائتلاف وتجانس وامتزاج فى طبيعة واحدة.

الظاهر والخَفىّ صنوان، طالما أنهما من معين واحد، والزبد وإن كان خفيف الوزن والقيمة، سريع التشكل وسريع التلاشى، فإنه أوثق صلة بأحشاء البحر من القوارب، ومن مَلّاحيها المُشتبكين فى صراعٍ وجودى مع مَوجِه الهادر.

السياسة ليست على النقيض من القيم، غير أنها لا تعرفها بالمعنى الأخلاقى الشائع. وليس من صميم أدوارها أن تصرّح بدواخلها أو تتعرّى تماما على مرأى من الجميع. يصح فيها التذاكى، وتُطلَب المداراة والمناورة والخداع ما أمكن، والمهم ألا تتناقض مع ذاتها أو تتعثر فى الرواية الواحدة.

أمَّا السلاح فعلى العكس، لأنه لا يتلوَّن ولا يتخفّى، ومن طبيعته أن يكون فجًّا جريئًا بذيئًا، وقادرًا على ملء الفجوات التى يُخلِّفها الساسةُ وراءهم. ومن البديهى كما قال المتنبى أنَّ «وَضعَ النَّدَى فى مَوضع السيف بالعُلا/ مُضِرٌّ كوَضع السيف فى موضع الندى».

لقد انتهجت حماس فى طوفانِها خيار القوة الخشنة، كأحد وجوه السياسة الإكراهية عندما تستعصى تمثلاتها الناعمة، ومن طبائع الأمور أن يكون الانتقال بغَرَض العودة من موقعٍ أفضل، أو أن تتداعى الخيارات عمَّا كانت عليه سابقًا.

والمعنى، أنَّ البندقية لا تُحَسِّنُ الشروطَ من تلقاء نفسها، بل بقَدر ما تُفسحه من مكانٍ على الطاولة لاحقًا، وكما يُحتَمَل معها الإنجاز، فالتقهقرُ والانحسار بين قائمة الاحتمالات أيضًا، وبالتساوى نظريًّا فى أغلب الحالات، إلَّا ما يتَّصل بفلسطين عمومًا، وغزَّة على وجه الخصوص، انطلاقًا من صيغة الاحتلال القائمة، ومن الفوارق الكاسحة فى الطاقة والإمكانات.

انتدبت الحركةُ نفسَها لواجهة المشهد، أو انتدبتها الظروف. المهمُّ أنها ليست فى اشتباكٍ شخصىٍّ على الإطلاق، أو هكذا يُفتَرَض، ومن حيث كَونِها مُقاومةً وطنيّة فإنها فرعٌ على الأصل، أى الوطن والقضية فى مشروعها التحرُّرى المُمتدّ.

والتعريف إنما يقتضى منها أن تعمل للصالح العام، على قَدر طاقتها طبعًا، وأن تُعليه على افتتانها بالذات عندما يصبحُ حضورُها ضارًّا، أو مُقوِّضًا للهدف الأصلىِّ وخاصمًا منه. هُنا لا قيمةَ للفصيل وشعاراته ومُقاتليه جميعًا، إلَّا بقدر ما يدفعُ الخرائط قُدُمًا أو يُثبِّتها، وليس أن يُوقِدَ فيها النار أو يتسبَّب فى تآكُل أطرافها.

والالتزامات المُعلَّقة على كاهلها، تتطلَّبُ بالضرورة أن تكون الأجندةُ محليَّةً خالصة، فى المعنى والمبنى والمُحرِّكات أيضًا، وأن تنبُع وتتدفق بكاملها فى المجال المحصور بين النهر والبحر، أو الحدِّ المقبول والمُتاح منه مؤقّتًا،  صحيح أنها تحتاج إلى رُعاةٍ وتحالفات، إنما عليها دومًا أن تُرتّب الأولويات بوضوحٍ لا يقبلُ التفريع أو التأويل، وأن تتعاون مع الآخرين فى المُشتَرَك الذى لا يمسُّ جوهر السردية، وتفترق عنهم فيما يمتدُّ لغاياتٍ أيديولوجية مُلوَّنة، أو حساباتٍ مَصلحيّة «فوق فلسطينية»، أى أنَّ الواجب لا يبدأ من التصدِّى للعدوِّ وإحسان الكَرّ والفَرّ عليه وأمامه فحسب، بل من تعريف نفسها والتمَوضع على ثابتٍ وطنىٍّ، مُغلَقٍ ونهائىٍّ، وتتحدَّد فيه القطيعة والاتصال والتوادّ والتخاصم بمقدار ما يتلاقى عليه الفلسطينيون جميعًا، أو لا يتعارض مع أُصولهم الراسخة وشواغلهم العُليا ذات القيمة ومحلّ الاعتبار.

ومن هذا المُنطَلَق، لا يُمكن إبراء ذمَّة الحركة من أعباء الانخراط فى مشروع الإخوان على امتداد المنطقة، أو الارتضاء بالتبعية إلى جوارهم فى خدمة أجنداتٍ إقليمية ذات أبعاد عقائديَّة أو مطامع جيوسياسية.

كما لا سبيل لافتراض حُسن النيَّة فى الالتحاق برَكب الشيعيَّة المُسلَّحة تحت شعار المُمانعة، على كلِّ ما فيه من تهافُتٍ وتناقُضات فكرية وحركية، ومُنازعات طرفية مُصطَنَعة مع دول الإقليم، وأخيرًا التضادّ العميق مع الدائرة الإخوانية ورُعاتها المُباشرين من تيَّارات المَدّ السُّنىِّ أو العثمانية الجديدة.

محاولات التوفيق بين ولاءاتٍ مُتعارضة، وتطلُّعاتٍ من مجالات شديدة التضارب والبُعد عن بعضها، دفعت الحماسيِّين سابقًا إلى لعب أدوارٍ مشبوهة فى الساحة المصرية لصالح الجماعة الأُمّ.

وضعتها فى مُواجهة داعمها السابق، بشار الأسد ورُعاته الإيرانيين، مع اندلاع الحرب الأهلية السورية قبل نحو عقدٍ ونصف، وقرَّبتها من حزب الله وأجندة طهران المُتجاوزة على الدولة اللبنانية وسيادتها.

عكّرت ماءها مع محور الاعتدال، ولم تُعوّضها من عطايا المُمانعة والرجعية السُّنيّة، ضئيلةً كانت أو سخيّة.
وأخيرًا، امتدّت إلى أسوأ الصُّوَر المُمكنة، بتأطيرها فى بروازٍ واحدٍ مع الحركة الإسلامية «إخوان الداخل من عرب 48»، وإبرازها فى صورةِ مَنْ يتقاتل مع الصهاينة فى جانب، ويُقرّ التواطؤ معهم على جانب آخر.

كان العددُ مُتقاربًا، والأماكن أيضًا، بَيد أنَّ المعانى ابتعدت بأقصى ما يكون عن بعضها. وبينما يتجمَّع نحو 150 قائدًا أمنيًّا من مُتقاعدى جيش الاحتلال صباح الخميس الماضى، اعتراضًا على المَقتلة الدائرة فى غزَّة، وطَلبًا لوَقفها واستعادة الأسرى، كان مثلهم أو أزيَد قليلاً من إخوان تل أبيب يطبخون وقفَتَهم المُوجّهة من الخارج تحت عنوانٍ شبيه. غيرَ أنَّ الفريق الأوَّلَ ذهب إلى وزارة الخارجية الإسرائيلية، واختار الثانى أو دُفِعَ من مُحفِّزيه للذهاب إلى مُحيط السفارة المصرية.
لستُ من الطيِّبين الذين يُراهنون على قوَّة الضمير بين يهود الدولة العِبريَّة، أو يتأمّلون شيئًا من خصوم نتنياهو والتيَّارات التى تُوَصِّف نفسها «حركات سلام».
البلد بكامله تأسَّس على السَّلب والإكراه، وينحو بثِقَله جهة اليمين المتطرِّف، والبرىء فيهم يختلف فى وتيرة القتل وتقنية الترويع والذبح، أو فى غالب الأحوال يُنادى بتعليق الجريمة مُؤقَّتًا حتى استعادة الرهائن، ثمَّ مواصلة الهجمة النازية على القطاع.

وأيًّا كانت البواعث، فإنَّ لدى القاتل تنوُّعًا يضطلع بمهامّ الإشغال والتضليل وغَسل السُّمعة، ويُرَشّد عبءَ الإبادة، ويتناطح مع الآخرين فى إثباته على الدائرة الصهيونية بكلِّ تنويعاتها، فيما الضحايا لا يجدون واجهةً حصيفة من بينهم تلعبُ الدور المُكافئ، بل يتكالَبُ عليهم من يُمسكون بخناقهم، أو يَدّعون نصرتَهم، ليُشوِّهوا مَظلمَتَهم ويُسلّموهم لُقمةً سائغةً لضباع الليكود، وأى بديلٍ عُنصرىٍّ إبادىٍّ شبيه.

تمتلئ شوارع تل أبيب وغيرها من المدن المُحتلَّة بالتظاهرات، ولا خلاف على أنها فعالياتٌ مُخفَّفة لخطاب اليمين التوراتىِّ والقومى الحاكم، وأقرب إلى الاحتيال من الأخلاقية والانشغال الإنسانى.
إنما المؤسف أن يكون الغاصبُ قادرًا فى أوقات انتصاره على أن ينسج من التفاصيل دراما مُتعدِّدة الطبقات، ومُكتملة الأركان، فيما لا يتوقَّف المغصوب عن إنكار الهزيمة، والتعالى على الواقع إغراقًا فى الفواجع، كما لا يكتفى بحُفرة الطوفان التى اصطنعَها السنوار، فيُواصل حَفرَها وتعميقَها والترَدِّى فيها من شاهقٍ بالبلاد والعباد، وبلا أىّ هامشٍ للاعتراف أو الاعتذار والتصويب، بل ربما لا يستشعرُ ثِقَل المأساة وتداعياتها المُرعبة أصلاً.

قبل أن يصطفَّ صهاينةُ الإخوان أمام السفارة المصرية فى تل أبيب، قال خليل الحيَّة كلامًا سخيفًا للغاية ومليئًا بالمُزايدة، وخاطَبَ المصريين مُنتدبًا إيّاهم للتصعيد والزحف نحو القطاع. تَبعته الآلةُ الإعلامية للحركة تعريضًا بالمساعدات المصرية وعمليات الإسقاط الجوى، وكل هذا جاء تاليًا لدعاوى الجماعة وتنظيمها الدولى للتجمهر وحصار السفارات.
فجأة تبدّلت التوجُّهات عن إملاءٍ أو يأس، ولغَرَضٍ لا يَخفى على بصيرٍ أو ضرير، فصُنّاع الطوفان يتهرّبون من مسؤولياتهم سعيًا إلى تحميلها على أكتاف الآخرين، ورُعاتهم يُشاغبون الإدارة السياسية فى القاهرة، صراعًا على الأدوار أو ثأرًا من إطاحة الحُكم الأُصولى فى 2013.

وبهذا، لا يُشوّهون الحقائق فقط، إنما ينحطّون بالقضية العادلة لدرجة أن تصير رصاصةً مدفوعة فى بندقيّة مُستأجَرة.
يعلمُ الحماسيون باليقين أنَّ الإخوان يُوظّفون القضية لغاياتٍ تنظيمية، وربما لهذا أعلنوا «فكَّ الارتباط» مع الجماعة فى ورقتهم الاستراتيجية المُعدَّلة بالعام 2017.
تلك الورقة تقبّلت فكرة الدولة الفلسطينية على حدود يونيو 1967، لكنها تحالفت مع إيران التى قال وزير خارجيتها السابق «عبد اللهيان» إنهم يتلاقون مع الصهاينة على الرفض المُطلَق لحل الدولتين. كما ظلَّت الحركةُ تتحدَّث عن الوقفية الإسلامية على كامل الأرض، فيما تنفرد بالجزء الأصغر منها فى غزّة عقب الانقلاب، وتتأبّى على كلِّ محاولات التصالُح والالتئام، أقلّه مَعنويًّا طالما يستعصى وَصلُ الأقاليم ببعضها راهنًا.

ما أدانت الحركةُ تصعيد الإخوان ضد مصر، مع عِلمِها بما قدَّمته الأخيرة للقضية ولا تزال، وكمال الخطيب، أحد دعاة وَقفة السفارة ومُنظِّميها، يُكرِّر دائمًا أنه لا يدعو لتحرير الأقصى، قدرَ ما يتطلَّع لتحرير مكّة والمدينة. وما استهجنَ الحماسيِّون كلامَه، ولا أحسّوا بغضاضةٍ فى الاصطفاف معه بالصمت والإقرار الرمادى.
يُريدون أن يأخذوا من كلِّ الأطراف، وأن يُصادقوا ويُعادوا ولا تنقص عطاياهم، كما لا يُريدون أن يمنحوا شيئًا، حتى لفلسطين وأهلها المنكوبين.
يقول خالد مشعل إنَّ محرقة غزة مُجرّد خسائر تكتيكيّة، ويُعَقّب أسامة حمدان بأنَّ التضحية وَصفٌ مَوقوف على المُقاتلين، ولا يُنسَبُ لِمَا سَدَّده المَدنيِّون العُزَّل من شرايين النساء والأطفال. وأخيرًا يطلُع غازى حمد على الناس فى مشهدٍ لا يليقُ إلَّا بجنرالٍ يجمع النصر من أطرافه، قائلاً إنَّ الحركة لا يُمكن أن تُسلِّم من سلاحها ولو رصاصةً فارغة.

هكذا تصير القذيفة قبل المواطن، والفصيل أهمّ من الوطن، وكفاءة النضال لا تتحدَّد على ميزان الربح أو الخسارة من منظورٍ عمومىٍّ واسع ومُمثِّل للجميع، بل ببقاء الراية الحماسية مرفوعةً، ولو على طَلَلٍ وجبال من الركام والأشلاء.

وباعثُ الرسالة الأخيرة، أنَّ مبعوث الرئيس الأمريكى للشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، صرَّح من إسرائيل، عقب جولته فى غزَّة، بأنَّ «حماس» جاهزةٌ ومُوافقة على تسليم السلاح، فأصدرت الحركةُ بيانًا مُعجَّلاً ينفى القبول بالفكرة من أيّة زاوية، ويُعلّقها تعليقًا أبديًّا على تجسيد الدولة الفلسطينية، فيما لا يُعرَفُ مقصدُها من العنوان أصلاً، وهل ينصرفُ لحَلِّ الدولتين، أمْ للكُلِّ الواحد وفقَ أطروحة الوقفية الإسلامية.

ومع الاتفاق الكامل على مشروعية المقاومة، وأنها حقٌّ أصيلٌ لحين استيفاء الحقوق الضائعة، فالاختلاف هنا على حصرِها فى تصوُّرٍ واحد، ثم تخصيصه واحتكاره لصالح تيَّارٍ دون الباقين.

ومن وراء ذلك يأتى سؤالُ المُراوغة وتناقُضات الكواليس عن المسرح، إذ من غير المنطقىِّ إن يُصرّح رجلُ ترامب بما لم يسمعه فى الغُرَف المُغلقة، أو لم يأخذ به تعهُّدًا من خليل الحيَّة وفريقه.

فإمَّا أنَّ الفنادق والخنادق ما يزالان على صراعهما القديم، أو أنَّ المُفاوضين يستخّفون بالعملية كلها، ويُقَطّعون الوقت برفاهية المنتصر، لا بمأساوية المسؤول الذى فى رقبته أرواحُ الآلاف ومعاشهم، وما تبقَّى لديهم من إيمان بالوطن وقدسية القضية.

سبق لرجال الفنادق أن تشدّدوا فى مفاتيح التبادُل، ثمَّ أهدَوا لترامب الجندىَّ مُزدوجَ الجنسية عيدان ألكسندر من دون مقابل. ويُحتمَل أنهم غازلوا الجانب الأمريكى بفكرة إلقاء السلاح، على أمل إبرام هُدنةٍ تتغيَّر فيها التوازُنات، أو يجدون مخرجًا من الالتزامات.

كما يُحتمَل أن يكونوا قد تلاعبوا بالكلام، ففَهِمَ «ويتكوف» الرسالة على وجهٍ خاطئ، وأغراه الانحياز المعروف لإسرائيل بإعلان استخلاصه المغلوط. فى الحالين، يبدو أنَّ حماس لا تعرف خصومَها، أو لا تُحيطُ بطبيعة المأساة، وتتأبّى على افتداء الغزِّيين والوفاء بفروضها الواجبة.

ومن الوارد أيضًا، أن يكون المَوقفُ قد تغيَّر خلال الأيام الأخيرة. إذ نصّ البيانُ الختامىُّ لمؤتمر حلِّ الدولتين فى نيويورك، على تسليم سلاح القسّام والفصائل للسلطة الوطنية، فكأنَّ التناقُض الحماسىَّ مع «رام الله» يعلو على نظيره مع تل أبيب، لا سيّما أنَّ الحركة أبدت القبول سابقًا لفكرة الخروج من مشهد اليوم التالى، وألَّا تكون شريكًا فى إدارة القطاع بعد الحرب، بل زادت على هذا بطلبِ هُدنةٍ طويلة تمتد لخمس سنوات أو عشر، تتعطل فيها القوّة الخشنة بطبيعة الحال، سواء نُزِعَت أو جرى تخزينها تحت رقابة دولية.

ومجموع المواقف والتوجُّهات المُتبدِّلة، فى الصفقة والتسوية ومستقبل غزة وسلاحها، تصبُّ كلُّها فى اتجاه أنَّ الحركة تُفتِّش عن طوقِ نجاةٍ لنفسها، وعن سياقٍ عائم يسمحُ لها لاحقًا بترميم قُواها وتجديد عافيتها، بحيث لا تكون مُنظَّمة التحرير بديلاً عنها، لا الآن ولا فى أىِّ يوم قريب أو بعيد.
ليس مُهمًّا أن تتنَّفس غزّة أو يُعاد إعمارها، ولا أن تلتئم سياسيًّا وشعبيًّا مع الضفّة، لابتكار وَصفةٍ مُنَشّطةٍ للمسار التحرُّرى، إنما المُهمّ أن تبقى حماس بذاتها ومَن تنوب عنهم، ولو احترقت القضية ومُلّاكُها الأصليّون فى الداخل والشتات.

لا أُفقَ لحماس أو مُستقبلَ فى القطاع، وقادتها يعرفون هذا قبل غيرهم. وعليه، فالمُناكفة فى إخلاء الطريق للسلطة الوطنية تُعَقِّد الحاضرَ ولا تفُكّ ألغاز المستقبل، وترفع كُلفةَ الانتقال الاضطرارىِّ فى كلِّ الأحوال مع امتداد التأخير المُتعَمَّد.

أمَّا الاستعراض الدعائىُّ فى مسألة السلاح، وقد باتَ مُعطّلاً وعديم الفاعلية، فلعلّه بحثٌ عن الصورة وحِفظٌ لماء الوجه، أو نِيّةٌ مُضمَرة لاختراع العقبات فى مسار إعادة التأهيل إن لم يَكُن على شروطها، أو استُبعِدَت منه، اتّصالا برَفضِها الانضواء تحت الخيمة والدخول فى الميثاقية المُعتَرَف بها دَوليًّا.
ولا دليل أبلغُ من اعتراضها على إجراء انتخابات تُجدِّد قاعدة مُنظَّمة التحرير، لأول مرّة منذ ستّة عقود، فيما لا تعترف بالمنظّمة ولا تحوز عضويّتها أصلاً، إذ بعدما أُبيدَت غزّة، ويتوَسّع الاستيطان بشراهةٍ فى الضفَّة، لا معنى للتقاعُس عن الاستدراك والإنقاذ، إلَّا أنها مشغولةٌ بمَوقعها ومطامعها، لا بالجغرافيا والديموغرافيا، ولا بثِقَل الأعباء التى تُرتّبها عليهما مُستقبلاً، بنَزَقِها الشرس والمُتصاعد راهنًا.

يتكالَبُ الإخوان على القضية من ثلاثِ جهاتٍ أو يزيد: الجماعة الأُمّ فى عادتها البائسة مع استغلال فلسطين منصّةً للدعاية والمُزايدة، وتطويرها اليومَ إلى أداةٍ وظيفيّة للتصويب على مصر بوَصفِها رأسَ الحَربة ضد مشروع التنظيم، وإخوان تل أبيب الذين يُبَيّضون وجهَ نتنياهو ويُلاقونه على سرديَّة الدولة اليهودية الصافية عِرقيًّا، بمُجرّد التقدّم بطلبٍ للمُتطرِّف إيتمار بن جفير من أجل التظاهر أمام السفارة المصرية، ثم الجناح الحماسى واستفراده بالغزّيين لعقدين، وتسليمهم بعدها للصهاينة قُربانًا لنزوات السنوار، وبالتوازى مع الثلاثة لا تغيبُ تقاطعاتها جميعًا مع الشيعية المُسلّحة والرجعية السنيّة الحالمة بالعثمانية، ومع الصهيونية التى لا مانعَ لديهم فى السَّير تحت ظِلِّها، لإحكام القَبضة على دُوَل المنطقة.

أخشى أنَّ المسألة بين النهر والبحر قد تخطّت فكرة الانقسام الفصائلى، إلى التقسيم على التقسيم، لتجزئة المُجزّأ وترسيم الحدود بين شركاء الوطن الضائع.
الأيديولوجيا وطنُ الإخوان بالطبيعة، ويكتفون بها عن الخرائط والبلاد، ويبدو أنَّ حماس لم تتحرَّر بعد من قيود التنظيم وميراثه الأُصولىِّ، ما يجعل سؤال القضية ونضالاتها محكومًا أوّلاً بإنجاز الافتراق الواجب عن الأجندات الخارجية، وإعادة تأهيل مكوّنات الداخل على أرضيّةٍ وطنية خالصة، تخلَعُ فيها الحركةُ عن كاهلها ذاك الهوى الإخوانى، والولاء للفُرس والباب العالى، وتعود تيّارًا فلسطينيًّا لا طابورًا ينتظمُ على إيقاع الآخرين فى أرض فلسطين.
ما أنجز السلاحُ حربًا مُتكافئةً ولا أحرز نصرًا زهيدًا، وفى عِزّ قوّته كان وبالاً على غزة وأهلها. تسلّمت حماس القطاع من عرفات وخليفته أفضل كثيرًا مِمّا هو عليه الآن، وأعادته بالتواطؤ مع الصهاينة قرونًا للوراء.

لا نفعَ للبندقية إن لم يُوجّهها عقلٌ سياسىٌّ صافٍ وناضجٌ وأمين، ولا أملَ للقضية طالما أنَّ بعض بَنِيها يُنَصّبون أنفسهم تاجًا فوق رأسها.
كفاءةُ المُحارب تستوجِبُ القُدرةَ على الإقدام والإحجام، حسبما تقتضى الظروف، ومهارةُ السياسىِّ أن يَفُكّ الأحاجى ويتلافى الفخاخ، وخلاصةُ ما رأيناه أنهم أخفقوا فى الميدان وعلى الطاولة، واستهانوا بانحياز واشنطن، وخُدِعوا من الإخوان وإيران والأناضول وغيرها، ويُعادون الأطراف الأكثر صدقيّة وإخلاصًا.
القضايا الكُبرى أسمى من المُدّعين باسمها، وحالما تُختَزل فى ذواتهم الخفيفة، فإنها تُحمَّل بكل ما فيهم من عِلَل وعثرات ومطامع خاصّة، ولا تُضيف إليهم من هالتها ما يُعوِّض انطفاءهم ويُبيّض سواد طواياهم، أو يُرمِّم أفكارهم الهشّة، ويُقوِّى ضعفهم البنيوى الفادح.

Google News تابع آخر أخبار اليوم السابع على Google News

Trending Plus

اليوم السابع Trending

الأكثر قراءة

انطلاق مباريات الجولة الثانية من مسابقة الدوري المصري غداً

الداخلية: استمرار سحب كراسات التقديم بالمعهد الصحية الشرطية حتى 10 سبتمبر

إنجاز تاريخي ينتظر باريس سان جيرمان ضد توتنهام في السوبر الأوروبي

لتخفيف الضغط عن العروبة وترسا.. بدء إنشاء محور الإخلاص بطول 5 كم فى الجيزة

ملك البدايات.. رقم قياسي ينتظر محمد صلاح في مباراة ليفربول ضد بورنموث


الزمالك ضد المقاولون العرب فى الدوري .. موعد المباراة والقناة الناقلة

نادى كولومبوس: وسام أبو على فى طريقه لأمريكا.. إنها مسألة وقت فقط

هيئة الدواء تكشف معلومات مهمة عن اللاصقات الجلدية لمنع الحمل.. التفاصيل

فريق "واما" يحيى حفلاً غنائياً فى الساحل الشمالى

رادار المرور يلتقط 1152 سيارة تسير بسرعات جنونية فى 24 ساعة


بنفيكا ضد نيس .. عبد المنعم يغيب فى خسارة فريقه بتصفيات دوري أبطال أوروبا

الأرصاد: الخميس ذروة الموجة الحارة ودرجات الحرارة تصل 49 جنوب الصعيد

الخارجية الأمريكية: نتوقع من إسرائيل أن تحقق بشأن مقتل صحفيين في غزة

تعرف على طريق أحفاد الفراعنة للوصول إلى المربع الذهبى ببطولة العالم تحت 19 عاما

أسماء أعضاء مجلس الشيوخ بالنظام الفردى بمحافظة الفيوم

تقارير.. مانشستر سيتي يتواصل مع دوناروما لانقاذه من باريس سان جيرمان

ننشر أسماء الفائزين فى انتخابات مجلس الشيوخ بالنظام الفردى والمرشحين فى الإعادة.. صور

مصطفى كامل يدعو للفنانة أنغام بالشفاء العاجل وراغب علامة يعلق: وحشتينا

الوطنية للانتخابات: 11 مليونا أصوات صحيحة بالنظام الفردى فى انتخابات الشيوخ.. صور

وصول راغب علامة إلى مقر نقابة المهن الموسيقية للتحقيق معه

لا يفوتك


المزيد من Trending Plus
Youm7 Applcation Icons
اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع اليوم السابع هواوى