نجيب محفوظ قائد بأمر نابليون.. قصة حصول أديب نوبل على أعرق وسام فرنسى

لعل أشهر الجوائز والأوسمة الأدبية التى حصل عليها الروائى العالمى نجيب محفوظ ، كانت جائزة نوبل، التى لم يحصل عليها أى أديب مصر سوى نجيب محفوظ، ورغم ذلك، فقد حصل محفوظ على العديد من الجوائز والأوسمة الرفيعة من كافة أنحاء العالم، بخلاف التكريمات، التى كانت تُهدى له، ولولا عدم قدرته على السفر خارج مصر إلا فى مرات قليلة وظروف اضطرارية، لربما زادت تلك الأوسمة والتكريمات والجوائز.

كتاب فى حضرة نجيب محفوظ
واحدة من هذه الأسمة الرفيعة التى حصل عليها محفوظ خلال مسيرته، كان وسام الفنون والآداب بدرجة "قائد" من فرنسا، حيث يذكر الكاتب الكبير والمفكر محمد سلماوى فى كتابه "فى حضرة نجيب محفوظ"، واقعة حصوله على وسام الفنون والآداب الفرنسى، ويقول: اتصل بى الأستاذ ليقول لى: لقد أرسل لى السفير الفرنسى بالقاهرة خطابًا يخطرنى فيه أن فرنسا منحتنى وسام الفنون والآداب بدرجة "قائد" فما معلوماتك عن هذا الوسام ؟!
فقلت فى فرحة لم أخفها : إن هذا هو أعرق وسام فى فرنسا يا أستاذ نجيب، لقد أنشأه نابليون بونابرت نفسه، وعلى حد علمى فإن قليلين جدا الذين فازوا بهذا الوسام الرفيع، وللفائز به أن يختار إما أن يتسلمه فى فرنسا أو فى السفارة الفرنسية ببلده، فقال الأستاذ: وأنا لا أستطيع أن أذهب إلى فرنسا ولا إلى سفارتها.. وبمجرد أن علم السفير الفرنسى باتريك لوكلير بقبول نجيب محفوظ الوسام قرر أن تجرى مراسم تقليد الوسام - لأول مرة - بمنزل المكرم نفسه.
وتابع سلماوى: "وقد قبل الأستاذ نجيب هذه اللفتة الكريمة من جانب السفير على أن تتم العملية فى إطار من الأسرة وبعض الأصدقاء المقربين، وقد قبل السفير جميع شروط الأستاذ نجيب، وقال إنه لم يحضر معه إلا القائم بأعمال السفارة ستفان جومبرتز الذى سبق أن قابل كاتب مصر الكبير منذ ثلاث سنوات، ولكن خلال أسبوع واحد كان السفير قد اتصل بى عدة مرات ليخبرنى أولا بأن زوجته تصر على الحضور معه فهى من المعجبين بأعمال محفوظ ثم إن الملحق الثقافى جيل تيوديه سيحضر هو الآخر باعتبار المناسبة ثقافية وتقع فى دائرة اختصاصه، ثم إن مدير المركز الثقافى الفرنسى يرى أنه لا بد أن يكون موجودا هو الآخر، ثم أخيرا إن جميع الزوجات يصرون على الحضور، وفى كل مرة كنت أتصل بالأستاذ فيبدأ فى عد المدعوين، وينتهى به الأمر إلى اختصار فى العدد من جانبه حتى يترك الفرصة للذين سيأتون لتكريمه بأن يتسع لهم منزله".
واستطرد سلماوى: "وقبل الساعة السادسة من مساء يوم السبت الأخير من شهر مارس 1995، وهو اليوم المحدد المراسم تقليد الوسام، كان الأستاذ جالسًا فى صالون منزله ومعه أصدقاؤه المقربون المخرج السينمائى الكبير توفيق صالح والطبيب النفسى المعروف يحيى الرخاوى والكاتبان جمال الغيطانى ويوسف القعيد وأنا وبعض أفراد أسرته، بالإضافة إلى قرينته وكريمتيه أم كلثوم وفاطمة، أو هدى وفاتن كما يناديهما المقربون للأسرة، وقال الأستاذ بكرمه الشرقى المعروف: ألا يجب أن يجد السفير أحدا فى استقباله فى الخارج عند وصوله؟ فقلت له إنه لن ينتظر ذلك، وقال توفيق صالح: إنه قادم لزيارتك بمنزلك ومنزلك يبدأ من باب الشقة".
وأضاف: "فى تمام الساعة السادسة دق جرس الباب ودخل السفير ومعه الوفد الفرنسى، وبعد دقائق من كلمات الترحيب المتبادلة دار حديث بين الأديب الكبير وضيوفه، قال السفير خلاله إنه قرأ معظم أعمال نجيب محفوظ التى ترجمت إلى الفرنسية، وقالت زوجته مارى اليس: إن كتابها المفضل هو "أولاد حارتنا"، وقال الأستاذ إنه قرأ للكثير من الكتاب الفرنسيين مثل بروست وفلوبير وأناتول فرانس، وبعضهم كان يقرأ أعمالهم مباشرة مثل إميل زولا الذى أعجب كثيرا بروايته «نانا» التى قرأها بالفرنسية".
وأكمل: "جاء وقت تقليد الأستاذ الوسام فانتقلنا جميعا بأوامر صريحة من ثلاثة طغاة هم: مصورو الأهرام والأخبار والمصور، محمد القيعى ومكرم جاد الكريم وشوقى مصطفى الذين تصوروا أنفسهم قادة فى معركة.. وقد أطاع نجيب محفوظ أوامرهم قائلاً بروح دعابته المعروفة: حاضر لغاية ما أخذ الوسام وبعد كده أنا سأكون "القائد".
وتابع: "انتقلنا جميعًا إلى الموقع الجديد الذى اختاره رؤساء أقسام التصوير فى الدور الصحفية الثلاث؛ حيث ألقى السفير الفرنسى كلمة عظيمة فى أربع صفحات باللغة الفرنسية وجه خلالها الحديث لنجيب محفوظ باسم ميتر» أى «الأستاذ» وقال فيها: إنه لمن عظيم الشرف لى شخصيا أن أقوم بتقليدكم هذا الوسام الذى منحته لكم فرنسا تكريما لكم على مكانتكم الأدبية العالمية، إلا أن قائد فيه هى أعلى درجة فى فرنسا.. حصولكم عليه هو فى الوقت ذاته تكريم للوسام نفسه الذى تعتبر درجة، وتحدث السفير فى كلمته عن مكانة نجيب محفوظ عند القراء الفرنسيين فقال إنه أقرب كاتب عربى إلى قلوبهم، وقال: إن محفوظ ينتمى إلى مجموعة من أعظم أدباء العصر فى العالم، كما أشاد السفير فى كلمته بالجانب الآخر لنجيب محفوظ، وهو جانب المحلل الاجتماعى من خلال مقالاته الصحفية فى الأهرام)، والتى قال إنهم يقرءونها مترجمة كل أسبوع، ثم أشار إلى واقعة الاعتداء على الكاتب الكبير، فقال: إن هذا القدر الهائل من التعاطف الذى حزتم عليه بسبب تلك الواقعة الغاشمة كان خير دليل للمتابعين للشئون المصرية فى العالم على أن الاتجاه الإرهابى المتطرف معزول تماما فى المجتمع".
واختتم السفير كلمته قائلاً : أيها الأستاذ إنه لشرف عظيم بالنسبة لى اليوم أن أشغل وظيفتى تلك كممثل لفرنسا؛ لأنها سمحت لى أن أقوم بتقليدكم هذا الوسام الرفيع، ثم قام القائم بالأعمال بإخراج الوسام من علبته وقدمه للسفير الذى قال: الأستاذ نجيب محفوظ.. إننى أعلن رسميا باسم حكومة فرنسا منحكم رتبة قائد فى وسام الفنون والآداب، ثم قلده الوسام المصنوع على شكل نجمة من الذهب الخالص عيار 24 قيراطا ومطعما بالمينا» الخضراء وسط تصفيق الجمهور، وهنا وقف الأستاذ ليرد التحية، فقال: "سيدى السفير.. أشكركم أولاً على تفضلكم بالموافقة على الحضور إلى بيتى الصغير مراعاة لحالتى الصحية.. وأشكركم ثانيًا على حملكم إلى هذه الهدية السامية التى أعتز بها.. ثم أشكركم أخيرا لكلمتكم الجميلة الرقيقة الشاملة التى أعتقد أن الدافع الأول وراءها هو عواطفكم النبيلة.. فشكرًا لكم وشكرا للحكومة الفرنسية التى قررت منحى وسام الفنون والآداب الفرنسى، وهذه فرصة أحيى فيها الثقافة الفرنسية، فقد ساهمن فى تكوينى الثقافى بسهم وافر عن طريقين: طريق مباشر هو القراءة للأدباء والفلاسفة الفرنسيين، وطريق غير مباشر وهو أن جزءا كبيرًا من أساتذتى كان ممن أتم تعليمه بفرنسا، مثل : مصطفى عبد الرازق وطه حسين ومنصور فهمى وزكى مبارك ومحمد حسين هيكل.. ولن أنسى الدور الذى قام به بعض الفرنسيين وبعض المؤسسات الأدبية الفرنسية فى ترشيحى لجائزة نوبل عام 1988.. وإن ما أرجوه هو أن أكون دائما وأبدًا جديرًا بهذا الوسام الرفيع".
وأختتم سلماوى: "وما إن انتهت مراسم تسليم الوسام حتى اختفت كريمتا الكاتب وزوجته ليعدن بالمرطبات والحلوى، وتحوّل الجو على الفور إلى جو حميمى.. فعاد الأستاذ إلى دعابته ليسأل السفير إن كان بإمكانه أن يخلع الوسام حين يذهب للنوم، فضج الجميع بالضحك، وهنا قالت حرم السفير: إن هناك مع الوسام شارة صغيرة توضع فى عروة الجاكت حتى لا يضطر حامل الوسام إلى ارتدائه أينما ذهب. ثم قامت بوضع الشارة بنفسها فى عروة جاكت الأستاذ قائلة: ها قد حزت أنا الأخرى بتقليد نجيب محفوظ بشارة الوسام، ولعلى أول زوجة سفير تحوز هذا الشرف.. وما هى إلا دقائق حتى غادر الفرنسيون منزل الكاتب الكبير متصورين أنه سيأوى إلى فراشه مبكرًا، لكن الجلسة امتدت بين الأسرة والأصدقاء إلى وقت متأخر؛ حيث أخذ الأستاذ يقص علينا ذكرياته مع الجوائز والأوسمة، ثم ودعنا الأستاذ قائلين له: كل وسام وأنت طيب".

Trending Plus