ترامب يُشعل "ابتزازا رقميا" ضد أوروبا.. شركات التكنولوجيا الأمريكية في قلب المواجهة.. البنية التحتية الرقمية الأوروبية تحت تهديد مباشر.. ومايكروسوفت وأمازون تُحاولان تطويق الأزمة بـ"سُحب سيادية" وتعهدات قانونية

في ظل التصعيد المستمر في العلاقات الدولية وتزايد الاعتماد العالمي على البنية التحتية الرقمية، تواجه أوروبا اليوم تهديدًا من نوع جديد، لا تُطلق فيه الصواريخ ولا تُفرض فيه العقوبات التقليدية، بل تُستخدم فيه التكنولوجيا كوسيلة ضغط وإخضاع.
فمع احتفاظ الولايات المتحدة بسيطرة شبه كاملة على الخدمات السحابية والبُنى الرقمية التي تعتمد عليها الحكومات والشركات الأوروبية، يُحذر خبراء من أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قد يُحول عمالقة التكنولوجيا – مثل مايكروسوفت وأمازون وجوجل – إلى أدوات حرب رقمية تُستخدم لابتزاز القارة العجوز، وفرض الإرادة الأمريكية على شركائها التقليديين.
هذا التهديد الرقمي المحتمل يُعيد رسم ملامح العلاقة بين أوروبا وواشنطن، ويطرح تساؤلات جادة حول مستقبل السيادة التكنولوجية في العالم الرقمي الجديد.
وحذرت صحيفة الباييس الإسبانية من تصاعد التوتر الرقمى بين أوروبا والولايات المتحدة ، فى ظل تحذيرات من استخدام الرئيس الأمريكى لعمالة التكنولوجيا الأمريكيين – مايكروسوفت، جوجل، وأمازون – كورقة ضغط ضد القارة العجوز.
وفي تقرير تحليلي للخبير الإسباني في الشؤون الأوروبية، برناردو دي ميجيل، حذّر من دخول أوروبا "عصر كل شيء مباح"، حيث تواجه خطر "التعتيم الرقمي الأمريكي"، الذي قد يُحدث فوضى اقتصادية ويُهدد استقرار الاتحاد الأوروبي، بسبب اعتماد الدول الأوروبية شبه الكامل على البنية التحتية الرقمية الأمريكية.
تشير الأرقام إلى أن أكثر من 66% من خدمات الحوسبة السحابية في أوروبا تُديرها شركات أمريكية، بينما يُخزن نحو 92% من بيانات الدول الغربية على أراضٍ أمريكية. هذا الاعتماد الرقمي، الذي لم يكن يُنظر إليه سابقًا كخطر، أصبح الآن مصدر قلق استراتيجي في بروكسل، خاصة مع وجود رئيس أمريكي يلوّح باستخدام كل أدوات الضغط الممكنة.
ويحذر مراقبون من أن تتحول هذه السيطرة التقنية إلى سلاح يشبه الرسوم الجمركية، يُستخدم للابتزاز السياسي أو فرض الشروط. وتجدر الإشارة إلى واقعة حُرم فيها المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية من الوصول إلى بريده الإلكتروني، المُدار من شركة أمريكية، بعد فتحه تحقيقًا في جرائم حرب محتملة ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي.
البرلمان الأوروبي يدق ناقوس الخطر
في خطوة تعكس جدية المخاوف الأوروبية، وافقت لجنة الصناعة في البرلمان الأوروبي في يونيو الماضي على مشروع قرار يُندد بالاعتماد المفرط على التكنولوجيا الأمريكية ، وجاء في القرار: "يعتمد الاتحاد الأوروبي بشدة على بنية تحتية رقمية أجنبية، ما يُضعف قدرته الاستراتيجية ويُعرض بياناته الحساسة للخطر، لا سيما في ظل قوانين أمريكية تتجاوز الحدود".
ويدعم القرار طيف واسع من القوى السياسية، من اليمين المتطرف إلى الخضر، مما يدل على توافق أوروبي نادر حول ضرورة تعزيز السيادة الرقمية للاتحاد الأوروبي.
مايكروسوفت وأمازون تحاولان احتواء القلق الأوروبي
استشعارًا للخطر، بدأت شركات التكنولوجيا الأمريكية في اتخاذ خطوات وقائية لطمأنة عملائها الأوروبيين. فقد أنشأت أمازون فرعًا أوروبيًا خاصًا بإدارة خدمات الحوسبة السحابية، يديره مواطنون أوروبيون ويخضع للقوانين المحلية.
أما مايكروسوفت، فقد أعلنت عن "خمسة التزامات" تجاه أوروبا، أبرزها زيادة سعة مراكز البيانات في القارة بنسبة 40%، وتشكيل مجلس إدارة أوروبي مستقل للإشراف على عملياتها. كما وقّعت الشركة اتفاقيات مع فرنسا وألمانيا لإنشاء "سحب سيادية"، بالشراكة مع شركات محلية مثل أورانج وSAP.
وأعلنت الشركة عن بند جديد في عقودها مع الحكومات الأوروبية، يتضمن التزامًا بمواصلة الخدمة حتى في حال صدور أمر من حكومة أجنبية بوقفها، مع التأكيد على أنها ستلجأ إلى جميع الوسائل القانونية لمقاومة أي قرار تعسفي.
صمت بروكسل.. وتحركات فرنسية ألمانية
رغم تلك المخاوف، لا تزال المفوضية الأوروبية – برئاسة أورسولا فون دير لاين – مترددة في اتخاذ إجراءات حاسمة، خشية إثارة غضب ترامب. هذا التردد دفع بعض الدول، وعلى رأسها ألمانيا وفرنسا، إلى اتخاذ تدابير فردية لتعزيز استقلالها الرقمي.
كما تبحث المفوضية الأوروبية في فرض لوائح جديدة لتمييز مزودي الخدمات الرقمية من خارج الاتحاد الأوروبي وفقًا لموثوقيتهم ومستوى المخاطر المحتملة.
تجارب دولية تُعزز القلق الأوروبي
وتزداد المخاوف الأوروبية بعد حالات مشابهة خارج القارة. فقد تعرّض ألكسندر دي مورايس، قاضي المحكمة العليا في البرازيل، لضغوط أمريكية بسبب ملاحقات قانونية للرئيس البرازيلي السابق جايير بولسونارو. يرى محللون أن الهجمات الرقمية قد تتكرر، وربما تُستهدف بها مؤسسات أوروبية مستقبلاً.
وبين التهديدات الصامتة للبُنى التحتية الرقمية وتحوّل التكنولوجيا إلى أداة جيوسياسية، تجد أوروبا نفسها في موقف دقيق لا يحتمل التأجيل. فاستمرار الاعتماد على عمالقة التكنولوجيا الأمريكيين في ظل إدارة لا تتردد في استخدام أدوات الضغط القصوى، يُضعف قدرة الاتحاد الأوروبي على حماية مصالحه الاستراتيجية وسيادته الرقمية.
ومع أن بعض الدول الأوروبية بدأت تتحرك فرديًا نحو حلول بديلة، إلا أن غياب موقف موحّد من المفوضية الأوروبية يبقي القارة مكشوفة أمام تقلبات السياسة الأمريكية.
وفي عالم لا تعترف فيه الحروب الحديثة بالحدود، يبدو أن المعركة المقبلة ستكون رقمية بامتياز — فإما أن تُبنى أوروبا الرقمية المستقلة، أو تبقى رهينة لخوادم عابرة للأطلسي.

Trending Plus