توماس فريدمان: أمريكا التى أعرفها تضيع ولا سبيل لاستعادتها

في مقاله الأسبوعي بصحيفة نيويورك تايمز، يقرع الكاتب الأمريكي المخضرم توماس فريدمان جرس الإنذار بشأن التحولات العميقة التي تضرب مؤسسات الحكم في الولايات المتحدة خلال الولاية الثانية للرئيس دونالد ترامب.
ويرى فريدمان أن ما كان يعد ذات يوم خطوطا حمراء في الحياة السياسية الأمريكية، من استقلالية البيانات الاقتصادية، إلى حيادية أجهزة الاستخبارات، وصولا إلى تقاليد الجيش، يتم تجاوزها اليوم تحت مظلة الولاء الأعمى للرئيس، في ظل صمت وتواطؤ كبار المسؤولين.
ويحذر فريدمان من أن ما يحدث ليس مجرد انحراف سياسي عابر، بل انهيار متسارع لمنظومة القيم التي شكّلت الأساس الأخلاقي والمؤسسي للجمهورية الأمريكية منذ نشأتها.
ويقول إن "أخطر" ما قام به ترامب خلال ولايته الثانية، وقع مؤخرا، حين أقال إريكا ماكنتارفر مفوضة مكتب إحصاءات العمل "الحكومي المستقل والموثوق به، بسبب تقديمها تقريرا اقتصاديا لم يرق له".
والأسوأ، برأيه، أن كبار المسؤولين الاقتصاديين في إدارة ترامب لم يعترضوا، بل سارعوا لتبرير الخطوة والتغطية عليها، بدلا من أن يثنوه عن فعلته لأن ذلك يضر بمصداقيته لدى الآخرين.
وضرب الكاتب مثالا آخر بوزيرة العمل لوري شافيز-ديريمر، التي أثنت صباح الجمعة على تقرير الوظائف واعتبرته إيجابيا رغم تخفيض الأرقام السابقة، لكنها ما لبثت أن غيّرت موقفها بعد الإقالة، معلنة تأييدها الكامل للرئيس ومطالبته بـ"أرقام دقيقة وغير مسيّسة".
ولعل هذا ما دفع صحيفة وول ستريت جورنال إلى التساؤل عما إذا كانت البيانات التي وُصفت إيجابية في الصباح، قد أصبحت مزوّرة في المساء. "بالطبع لا"، يجيب فريدمان.
ووفقا له، فإن هذه الخطوة ليست الأولى من نوعها في ولاية ترامب الثانية، بل تأتي ضمن سلسلة من الإجراءات التي تقوض استقلالية الدولة وتحوّلها إلى أداة في يد الرئيس لتلميع صورته وتحقيق أهدافه السياسية.
وذكّر بمحاولة ترامب في يناير2021، الضغط على سكرتير ولاية جورجيا لكي يعثر له على ما يكفي من أصوات -11 ألفا و780 صوتا على وجه التحديد- لقلب نتائج الانتخابات الرئاسية، بل هدده بـ"جريمة جنائية" إن لم يفعل.
لكن المحاولة أفشلها آنذاك مسؤولون جمهوريون تمسكوا بالنزاهة، وهي سلالة من السياسيين يبدو أنها انقرضت تماما في الحقبة الحالية، على حد تعبير كاتب المقال.
وحذر من أن الخوف بات الآن يسيطر على موظفي الدولة، الذين لن يجرؤوا على نقل أخبار أو تقييمات سلبية، خشية أن يتم التضحية بهم لإرضاء الرئيس.
واتهم شخصيات بارزة مثل وزير الخزانة سكوت بيسنت، ومدير المجلس الاقتصادي الوطني كيفن هاسيت، ووزيرة العمل شافيز ديريمر، والممثل التجاري الأمريكي جيميسون غرير، بالخنوع والتواطؤ.
وخص بالتقريع بيسنت ووصفه بالجبان، ويعرف جيدا مدى خطورة ما حدث، وهو الذي شغل في السابق منصب مدير صندوق التحوط.
واستشهد فريدمان بتصريح لوزيرة الخزانة السابقة جانيت يلين، التي اعتبرت أن ما حصل لا يمكن رؤيته إلا في "جمهوريات الموز"، مما يعكس حجم الانهيار في المعايير المؤسسية.
وأورد في مقاله ما كتبه بيل بلاين تاجر السندات المقيم في لندن، في نشرة إخبارية مشهورة بين خبراء السوق تُسمى (بلينز مورنينغ بوريدج)، بأن يوم الجمعة الأول من أغسطس الجاري قد يُسجل "باعتباره يوم وفاة سوق سندات الخزانة الأمريكية"، وذلك بسبب انهيار الثقة في البيانات الاقتصادية الرسمية.
وتخيل بلاين سيناريو ساخرا في مايو2031، حيث تتحول وزارة الخزانة إلى "وزارة الحقيقة الاقتصادية" وتصبح تقاريرها أداة دعائية تابعة لشركة "تروث سوشيال" المملوكة لترامب، تزعم وجود وظائف في جميع أنحاء أمريكا وأمن وازدهار لا علاقة له بالواقع.
ويوجه فريدمان حديثه للقارئ، قائلا: "إن كنت تظن أن هذا ضرب من الخيال، فأنت لم تتابع أخبار السياسة الخارجية، لأن هذا النوع من التلاعب بالمعلومات لخدمة أهداف ترامب السياسية قد طُبّق بالفعل في مجال الاستخبارات".
فالتلاعب بالمعلومات تجلى في إقدام مديرة الاستخبارات الوطنية تولسي غابارد، الموالية لترامب، على إقالة اثنين من كبار المسؤولين لأن تقريرهما ناقض رواية الرئيس بشأن ضلوع النظام الفنزويلي في دعم عصابة إجرامية.
وكان ذلك التقرير -بحسب فريدمان- قد قوّض الأساس القانوني الذي استخدمه ترامب لطرد مشتبه بهم دون محاكمة، استنادا إلى قانون عتيق يعود لعام 1798.
ويكشف الكاتب كيف امتد هذا التوجه الذي يسميه "العمى المتعمد"، إلى مؤسسات أخرى مثل الجيش، إذ أُلغي مؤخرا تعيين جين إيستيرلي -وهي خبيرة بارزة في الأمن السيبراني وخريجة أكاديمية ويست بوينت- في منصب تدريسي مرموق، فقط لأن ناشطة يمينية متطرفة اتهمتها "دون دليل" بأنها "جاسوسة من عهد بايدن". ويصف فريدمان هذا القرار بأنه تعبير صارخ عن مدى تغلغل نظرية المؤامرة في أجهزة الدولة.
وخلص فريدمان إلى أنها المرة الأولى التي بات يخشى فيها على مستقبل الولايات المتحدة، معتبرا أن استمرار هذا النهج السلطوي في الحكم، خلال السنوات الأربع القادمة، قد يؤدي إلى ضياع أمريكا التي يعرفها العالم، دون أن يكون هناك سبيل واضح لاستعادتها.

Trending Plus