جحود المعروف.. حين يُقابل العطاء بالنكران

في مسيرة الحياة، كثيرًا ما يمدّ الإنسان يده بالعون، يُنفق من وقته وجهده، يقتطع من قلبه ليمنح الآخرين ما يعينهم على النهوض أو النجاة أو الاستمرار،لا يفعل ذلك انتظارًا لمقابل، بل لأن فطرته الإنسانية تميل إلى الخير،وضميره يدفعه ليكون سندًا، خاصة لأولئك الذين عانوا أو افتقدوا الدعم،غير أن ما يصدم النفس،ويقسو على الوجدان،هو حين يتحول هذا الإحسان إلى عبء في أعين من تلقوه، بل وقد يُقابَل يومًا بالجحود، أو ما هو أقسى: بالخيانة.
إن الجحود ليس مجرد نسيان، بل هو موقف واعٍ بالإنكار، فيه يتجاهل بعض البشر ما قُدم لهم، كأنهم لم يذوقوا دفء اليد التي انتشلتهم من الغرق،وكأنهم لم يستظلوا يومًا في ظل من أواهم، إنه طمس متعمّد للجميل، ومحاولة لمسح أثر الآخرين من سجل النجاة،وكأن الامتنان عبءٌ لا يُحتمل،أو عارٌ يجب التخلص منه.
والأشد إيلامًا أن الجاحد لا يشعر أبدًا بثقل ما يفعل،لا يراه خيانة،بل أحيانًا يعدّه استقلالًا، أو تطورًا، أوخروجًا من عباءة الآخر، لكنه لا يدرك أن نكران المعروف لا يبني حرية،بل يهدم القيم، فليس هناك استقلال في طمس الحقيقة، ولا كرامة في إنكار الأيادي التي امتدت إليك حين كنت ضعيفًا.
إن جحود من أحسنت إليهم لا يدل على فشلي في الإحسان، بل على خلل في نفوسهم هم،هو عارٌ يُلحق بهم لا بك، وقد يكون من الحكمة أن نستمر في العطاء، لكن دون أن نسمح لجحود الآخرين أن يكسرنا، فالإحسان قيمة في ذاته، لا يجب أن تُقاس بارتدادها، بل بنيّتها وصفائها، وإن كان الجحود وجعًا عابرًا في حياتنا، فغنه لم ينقص من قدري شيئًا، بل ربما كان مرآة كشفت من يستحق البقاء في دوائري، ومن لا يستحق،وفي النهاية،فإن الجاحد يخسر أكثر مما يظن... يخسر نفسه.
وفي دروب العمل النقابي والخدمي، يسير الإنسان مثقلًا بهموم الآخرين، مُسخّرًا وقته وجهده من أجل مطالب الغير،حالمًا بعدالة يستحقها الجميع،ومؤمنًا بأن العمل العام رسالة قبل أن يكون موقعًا أو منصبًا،لكن ما لا يخطر ببال كثيرين أن أقسى ما قد يواجهه المخلص في هذا الطريق ليس المعوقات الإدارية ولا البيروقراطية المعطلة،بل جحود من كان يسعى لخدمتهم،كم من مرة صادفت من استمرأ المطالبة والضغط،لا بدافع الحاجة فقط،بل أحيانًا بدافع الابتزاز المعنوي، يتوقع أن تكون في خدمته ليل نهار،يراك وسيلة لا شريكًا في الهم،فإذا قصّرت يومًا عن تلبية مطلبه أو بالأحرى ابتزازه ــ ولو لأسباب خارجة عن إرادتك ــ انقلب، وإن ساعدته مرارًا، نسي، بل تعمّد أن يتناسى، وراح يُشيع عنك الأكاذيب، يفتري، ويُحرّف، ويطعن في نواياك.
إن هذا الصنف من الناس لا يرى في العمل العام إلا مصلحة مؤقتة،وعندما تتحقق،يتبخر الامتنان، وتُمحى ذاكرتهم،بل الأخطر أنهم قد يحوّلون المعروف الذي قُدم لهم إلى ذريعة للتشكيك، فيقولون: لم يفعل إلا لأنه كان مضطرًا، أو: كان يبحث عن مجد شخصي، وكأن العطاء مدان لا محمود، وقد يحوّلون الاختلاف في الرأي إلى خصومة،والاعتذار عن مطلب غير منطقي إلى هجوم،فيوظفون جحودهم أداة لتشويه من خدمهم،لا لأنهم ظلموا،بل لأنهم تعوّدوا الأخذ ولم يتعلموا ثقافة الشكر أو احترام الجهد البشري،وهنا يصبح الجحود في العمل العام أكثر قسوة،لأنه لا يُصيب فردًا فقط، بل يقتل روح المبادرة،ويزرع الشك في نفوس المخلصين، ويجعل كثيرين يعيدون النظر في جدوى السير في هذا الطريق المتعب،لكن رغم كل ذلك،يظل الإيمان الحقيقي بأن العمل من أجل الناس لا يجب أن يتوقف، حتى لو جحد بعضهم، وحتى لو زاغت قلوب آخرين، فالهدف أسمى من ردود أفعال فردية، والإخلاص لا يُقاس بامتنان الآخرين، بل بثبات الضمير، وقد يكون أعظم رد على الجاحدين.. أن أواصل عملي في صمت، بكرامة، دون أن التلوث بالمرارة أو الانتقام، فالتاريخ لا يحفظ صدى الأكاذيب، لكنه يُنصف الذين عملوا بصدق، ولو بعد حين.
في حياة كل من يعمل في المجال العام، تمر لحظات يكون فيها العطاء طوعيًا، والدعم صادقًا، والنية خالصة لوجه الله والإنسان،أن تقف إلى جوار شخص لا لأنك مجبر،بل لأن إنسانيتك لا تعرف أن ترى ألمًا وتسكت،أو أن تجد من يتعثر ولا تمدّ له يدك، وقفتُ يومًا،غير مرة، إلى جوار من احتاجني في أزمات صحية أنهكته،ونفسية أثقلته،ومالية كسرت ظهره،وعائلية حاصرته،لم أنتظر شكرًا،ولم أطلب مقابلًا،كنت أرى أن المروءة ألّا أُفصح،وأن الكرامة أن أستر،وأن الكبر الحقيقي أن أُخفي حتى على نفسي ما قدّمت، لكنّ الصدمة لم تكن في النكران وحده...بل في التحوّل من منكوَب إلى مهاجم،أومن طالب للمعونة إلى من يرفع السلاح الكلامي طمعًا في مطلب جديد،وكأنني مرهون في خدمة رغباته، وكأن المساعدة الأولى كانت دينًا أبديًا عليّ،أو صكًّا يسمح له بابتزازي متى شاء.
حين ينقلب من أحسنت إليه على شخصك،ويهددك لأنه لم ينل ما يريد كما اعتاد، تشعر أنك لا تواجه مجرد جحود، بل خيانة للعشرة، واستغلالًا للمروءة، وقبحًا لا يليق بآدمي، والأسوأ، أنه يفعل ذلك وهو يظن أنه "يستحق"،أو أن تهديده سيرغمني على الاستجابة مرة أخرى، إن هذا النوع من البشر لا يجرح لأنه عدو، بل لأنه خان موقعه في القلب، وخيّب الظن في الإنسانية التي دفعتني يومًا لمساعدته.
لكنني لا أندم، لن أندم على وقوفي يومًا إلى جوار من احتاجني، حتى لو انقلب،لأن النبل لا يُقاس برد الفعل، ولا الأخلاق تُعاد كتابتها حسب سلوك الآخرين، سأظل أرى العطاء شرفًا، والستر فريضة، والمروءة واجبًا، لكنني لن أسمح للجاحدين أن يكسروا ظهري، ولا أن يشكّكوني في ذاتي، ولا أن يجعلوا من كرامتي سلعة مقابل رضاهم، فالجحود لا يُصنع إلا من نفوس أُغلقت فيها أبواب الضمير، أما المخلصون، فلا ينسون المعروف حتى وإن اختلفوا.
إلى الذي أنكر المعروف.. حين يغدر الظل بصاحبه
في طريقي الطويل في العمل الخدمي والنقابي، لم أتخذ يومًا من المساعدة فضلًا ولا من العطاء منة، حيث أرى أن بعض المواقف تُقاس بالإنسانية لا بالمقابل، وأن ستر الناس ونصرتهم في أوقات الشدة موقف نبيل لا ينتظر التصفيق،ومن بين من ساعدت، كان هناك شخص ــ وأنت تعرف أنك المقصود ــ احتجتني في أشد لحظاتك: حين ضاقت عليك صحتك،وانهارت نفسك، وخذلتك أحوالك المادية،واضطربت حياتك العائلية،كنتُ معك،لا طلبًا لفضل، بل لأنك وقتها كنت في موضع إنسان يستحق من يقف بجواره،وقفت، ودافعت، وسترت، وحميت، حتى حين كان من حولك ينفضّون عنك،تحملت في سبيلك أكثر مما تحتمله طاقة،ودفعت من وقتي وراحتي وعلاقاتي، وكنت أظن ــ وما أسوأ الظنون حين تُحسن ــ أنك ستبقى وفيًا لذلك، لكنّك اليوم،بعد أن تجاوزتَ المحن،لا تكتفي بالنكران، بل تهدد، وتلوّح، وترفع صوتك طمعًا في مطلب جديد، وكأنك لم تعرف للجميل قدرًا، ولا للستر قيمة، ولا للعِشرة حرمة، أتدري ما يؤلم؟ ليس ما قلته، ولا ما لوّحت به،بل أنك ظننت أن التهديد يجدي مع من رفعك يومًا بلا مقابل.
لقد أخطأت، حين ظننت أن الكرامة تُشترى،أو أن المروءة تُبتز،ما قدمته لك كان لله ولوجه الإنسان فيك،لا لشراء سكوتك،ولا لتأمين ولائك،ولا لانتزاع شكرٍ من لسانك، لكن إن كنت تظن أن جحودك سيجعلني أندم،أو يُعيدني إلى ما كنت أفعله من أجلك،فأنت لا تعرفني بعد،أكتب إليك اليوم لا لاعتذار،بل لأغلق الصفحة بيني وبينك بصمت شامخ،افعل ما تشاء، قل ما تريد، واطلب ممن شئت، لكن تذكر لو نظرت إلى الوراء قليلاً، لعرفت أن من طعنتَه كان أكثر من سند… كان أنت حين لم يكن لك أحد.
والآن فقط عرفت ماوراء القصد والمعنى في المأثورة العربية [اتق شر من أحسنت إليه]، وقد تُفهم على أنها تحذير من جحود البعض ممن قد يرد الإحسان بالإساءة،ولكني أراها حكمة لا تعني التعميم بقدر ما تعكس تجربة معينة.

Trending Plus