أحكى عنك.. حسن الأمل الذى قهر الألم ورسم البسمة على الوجوه

عندما كان يرن جرس التليفون الأرضى في السابعة صباحا برنة الترانك، يفزعنا صوته، فننفض فراشنا وننتفض مرددين : "حد من البلد مات" نصطف جانب الهاتف حتى نتلقى الخبر ومن ثم نقيم الموقف هل كان الشخص المتوفى مهما ويحتاج إلى كل هذا القلق أم مجرد خبر وفاة ولابد من تأدية واجب العزاء، هذا ما كان يحدث من 40 سنة أو أقل قبل دخول تقنية التليفون المحمول ووسائل التواصل الاجتماعي.
في صباح السبت الموافق الثانى من أغسطس 2025 في الثامنة والنصف صباحا تقريبا، رن هاتفى المحمول معلنا على الشاشة، مكالمة من البلد مرتبطة برقم صاحبها، صدمة جرس الترنك تستدعيها الذاكرة قبل سحب كلمة موافق من أعلى الشاشة الملونة ألو : "عمك حسن عبد السيد مات".
صدمة الخبر جعلتنى أبحث عمن يؤكد الخبر، ثم أبحث عمن يؤكد تأكيد الخبر، ثم أبحث عمن يؤكد تأكيد من أكد تأكيد الخبر، أقاربي وأبناء عمومتى يؤكدون أن خبر وفاته صحيح، ولكن عقلى الباطن يراودنى أنها مزحة، وأنه هو من يعاود الاتصال بي وينفى خبر موته، لأننى لم اعتاد أن أتلقى أي مكالمات رسمية تخص العائلة إلا من خلاله، وأنه سيفاجئ الجميع بالظهور فى عزائه الضخم المكتظ بأعيان محافظة البحيرة، يسير في المساء بين المعزيين بجلبابه البلدى الفضفاض المهندم رافعا يديه بحركة تلقائية يشكر المعزيين سعيهم، فهو طيف خفيف الظل، رصين الكلمات ذو هيبة ووقار، سهل كالماء، لا تشعر به لأنه موجود لكنك لا تعرف أنك لا تستطيع أن تعيش بدونه إلا حينما يغيب عنك، هكذا هو حسن عبد السيد، القريب من الجميع، المتاح للجميع، الخدوم للجميع، المعاون للجميع، المحتفى بالجميع، راسم البسمة على وجوه الجميع، الزاهد فيما يملك، المتجاهل لما لا يملك، الراضى بقضاء الله وقدره في كل مجريات أموره، صاحب البساطة رافع راية الثقة والسهولة، حامل الخزينة الممتلئة بالأسرار والحكايات والطرائف، تميزه نبرات الصوت الرنانة، والهيبة الممزوجة ببسمة الرضا التي جعلت من اسمه ماركة مسجلة.
سوف أحكى عنك يا حسن.. عن روحك التى ستفتقدها الشوارع والبيوت، عن مقعدك فى الجلسات العرفية وفض المنازعات، عن دورك في المجاملات والشد من أزر الناس، ولا عجب إن رأيت البلد فى جنازتك متشحة بالرداء الأسود، جنازة مهيبة، الجدران والشجر يبكيان قبل البشر، النوافذ مغلقة بشارات سوداء، صوت نحيب نساء القرية ممزوج بدموع رجالها، وكأنها معزوفة الوداع الأخير التي صنعها القدر بدموع مشيعيك.
لولا حبي لك ما استخدمت الكتابة للتعبير عن مشاعر عائلية، لكونها ملكية خاصة، ليست للعامة من قريب أو بعيد، لكن الأمر معك أكثر اختلافا، فحبك الذى زرعته بين قلوب الناس جعلك شخصية عامة، من حق البعيد أن يعرفك ومن حق القريب أن يفتخر بكونه يعرفك.
كنت تتمتع بأمل في حب الحياة لم أره من قبل، رغم ثقل مرضك الذى عانقك ثلاثين عاما، في صراع تكاد تكون انتصرت عليه، فطيلة مشوار حياتك تعشق خدمة الناس وتأدية الواجبات ومساندة الفقير والمحتاج، كنت تكرر دوما أن السعي للعزاء صدقة، وأن واجب العزاء يسعى إليه بينما الفرح يدعى إليه، هكذا تعلمت منك وكأن في الحياة قانون حاسم اسمه "رد الجميل".
ما وجدته من حضور غفير في تشييع جنازتك تخطى الآلاف ومن ثم العزاء، يجلعنى أنظر للحياة بعين ثالثة، أعيد فيها حساباتى، علاقتى بالناس، علاقتى بالله، متسائلا في نظرة تأمل للسماء ماذا كان بينك وبين الله...
هل غرسك الله فينا شجرة مثمرة كى نستظل بظلها ما تبقى لنا من العمر بعد مماتك، نأكل من ثمرات أخلاقك ونمشي بها بين الناس، نأخذ من سيرتك العطرة وننثرها على الأجيال القادمة، نصنع من شيم خصالك ورجولتك تمثالا يخلد سيرتك، لا أجاملك إن جاز القول بأنك أيقونة الصبر والصمود والجلد والرجولة والجدعنة.
أعلم أن البكاء بحرقة ناتج من تداخل مشاعر الحزن لأصحاب العقول السليمة، ما شاهدته في تشييع جثمانك لمثواه الأخير تقشعر له الأبدان .. ماذا بينك وبين الله كى يبكى الدرويش على قبرك بحرقة وهو لا يتمتع بعقل سليم مثل باقى البشر الأصحاء، مشهد يجعلنى أتساءل، هل يعي هذا الدرويش معنى البكاء بحرقة على فراقك بالرغم من عدم تمتعه بعقل سليم أم بينه وبينك حب فياض زرعته أنت في قلبه من ابتسامة أو صدقة لا يعلمها غير الله.
أعلم أنك كنت سببا في فتح عدد من البيوت كادت أن تهدم أسرها لولا سعيك على توفير مصدر دخل لأصحابها، والسعي في علاج المرضى وتوفير سبل إجراء عمليات جراحية لهم بالمجان، وسعيك لإيجاد أي ثغرة توفر معاشا لامرأة لا تجد عائلا لأولادها، نعم كنت تبادر فى مساعدة المحتاج وفك كرب المسكين، وإرجاع حق المظلوم، وإلحاق المرضى بالمستشفيات.
كنت تفتح أبواب منزلك على مصراعيها يدخل منه القاصى والداني، كنت على ثقة بأن قضاء حوائج الناس كنز لا يفنى، كنت تعاملنى صديقا وصاحبا، ولم تنظر إليَّ يوما ما بعين العم الأكبر، أعلم أن علاقتى بك لا توصف، تدفقت فيها شلالات الحب والود بصرف النظر عن الإطار العائلى، فالحب لا يشترط القرابة أو الأخوة أحيانا.
رحلت وكأنك رأيت فى الموت خلاصًا مما نعيشه من توتر وانتظار لما ستسفر الأيام المقبلة من راحة أو عدمها، رحلت وتركت بصماتك في ابتسامتك العريضة التي رسمتها على الوجوه وحفرتها في القلوب بمواقفك التى لا تنسى.
حسن.. ليس هناك أصعب من الفقد ومن مرارة الرحيل وقسوة الفاجعة، خصوصًا وإن كنت عمود الخيمة الكبير الذى بدونه لا دفء ولا ظل في الرحلة، رحلة تجاوزنا فيها الأربعين عاما سويا توجهنى وتعلمنى وتعطينى.

Trending Plus