صناعة الوهم في زمن المشاهدات

محمود عبد الراضي
صناعة الوهم في زمن المشاهدات
لم يعد المار بالشارع يخشى اللصوص قدر خشيته من هاتف مرفوع وعدسة متربصة، باتت الجريمة تمثيلية، والضحايا كومبارس، والخطف "سكربت"، والسرقة "مونتاج"، والمشاهدات هي المخرج الأول، وربما الوحيد.
في زمن المنصات المفتوحة، صار "الترند" هو المكان الذي يُطاف حوله، وإن كان الثمن طعنة في خاصرة القيم، حفنة من الشباب امتهنوا صناعة الوهم، يحاكون المآسي بجرأة تحسدهم عليها كاميرات السينما.
طفل يُختطف في وضح النهار، امرأة تُسحل في زقاق ضيق، عراك مزعوم ينتهي بانفلات أخلاقي على الملأ، الكل يصفق خلف الشاشات، والربح يتدفق كالماء الآسن.
ولأن في كل فوضى قبضة عدل، جاءت الداخلية، لا بكاميرا بل بإجراء، لا بتأثير بصري بل بتأثير قانوني، ضبطت المتهمين، كأنها تنتزع المشهد الحقيقي من فم التزييف، فرح الناس، وهللوا كما لو أن الأمن لم يقبض فقط على ممثلين سيئين، بل على أفكار خطيرة كادت تتغلغل في الأذهان كحقيقة.
الواقع أن الأزمة ليست فقط في فيديوهات مُخلة أو حوادث مفتعلة، بل في ثقافة جديدة تُغلف الابتذال بورق الشهرة، أبناؤنا صاروا يحلمون بـ"المتابعين" بدل العلم، وبالدخل السريع بدل العمل الشريف، وكأن ميثاق الأخلاق صار مرنًا، يمكن تعديله حسب عدد المتابعين.
ليس مطلوبًا أن نخنق حرية التعبير، لكن من واجبنا أن نعيد تعريف الحرية، ليست حرية من القيم، ولا من الحياء، بل حرية من القاع.
علموا أبناءكم أن الرزق لا يأتي من فتحة كاميرا تبتلع الفضائح، بل من فتحة عقل تزرع الوعي، ومن يد لا ترتعش حين تعمل.
في زمن المشاهدات، لا تكن مجرد مشاهد.

Trending Plus