من العالم الرقمي إلى دفء البيت.. كيف تستعيد الأسرة أبناءها؟

"جيل التيك توك.. كيف نحمي أبناءنا قبل فوات الأوان؟" .. كان هذا عنوان مقالي الأخير، الذي تناولت فيه خطر كبير يطارد جيل اليوم نتيجة التوغل المتزايد للتكنولوجيا، والذي لم يعد مسألة عابرة أو رفاهية فكرية، بل أصبح قضية مصيرية تمس صميم كيان المجتمع.
من دون الخوض في تفاصيل ما ينشر عن قصص الـ"بلوجرز" الذين طالتهم يد القانون مؤخرًا، ما زلت على قناعة راسخة بأن الحل يبدأ من البيت أولًا، ففي وسط زحام المحتوى الرقمي، وسهولة الوصول إلى كل ما هو مُشوه ومضطرب وغير أخلاقي إلى أبنائنا، تتلاشى القيم الأصيلة، وتفقد التربية معناها، ليصبح الطفل فريسة لأفكار ومفاهيم تزرع فيه القلق بدل الطمأنينة.
البيت لم يعد مجرد مأوى، بل هو المدرسة الأولى والحصن الأهم الذي يتحمل عبء التربية الحقيقية، بعيدًا عن تفويض الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي القيام بهذا الدور الخطير، وهذا لا يعني محاربة التكنولوجيا، بل إعادة تعريف العلاقة معها، وتوجيهها نحو تنمية الوعي لا تدميره.
جيلنا تعلم من الأمهات والآباء والأجداد دروسًا ظلت زادًا روحيًا ونفسيًا في مواجهة الحياة، وفي كل بيت كانت هناك حكاية ونصيحة وموقف، تشكّل وجدان الطفل، وتزرع فيه القيم التي لا تهتز، وما زلنا نملك هذا الإرث، ويمكننا نقله إلى أبنائنا، لكن بأساليب تناسب زمنهم دون التفريط في جوهر التربية.
في مشهد بسيط من طفولتنا، كنا نرى الطفل يركض في الشارع مع أصدقائه، يلعب ويختبئ خلف جدار، ثم يعود مُترب الوجه لكنه يظل نقي القلب، يسمع من والدته أغنية قديمة أو حكاية من "أبلة فضيلة" على الراديو وغيره من البرامج القديمة الهادفة، فيتعلم منها الصدق أو الكرم أو احترام الكبير، كانت البدايات نظيفة.. وكان للحلم مكان.
أما اليوم، فهل يملك أطفالنا رفاهية هذا الحلم؟
كم منهم يعرف من هي "أبلة فضيلة"؟
وكم منهم يغفو على حكاية تربوية، لا على فيديو عشوائي بلا معنى؟
علينا أن نسأل أنفسنا بصدق: كيف نبدأ من جديد؟
الإجابة لا تكمن في عزل الطفل عن التكنولوجيا، فذلك أمر غير واقعي، بل في أن نكون شركاء حقيقيين له في رحلته، نرشده لا نراقبه فقط، ونمنحه البديل، لا نكتفي بالمنع.
على الآباء والأمهات أن يكونوا قدوة في استخدام التكنولوجيا، وأن يحددوا أوقاتًا مناسبة لاستخدام الأجهزة، مع فتح قنوات الحوار الصادق حول محتوى الإنترنت ومخاطره.
كما ينبغي أن نُعلم أبناءنا قيم الاحترام، والتمييز بين الصواب والخطأ، وتطوير مهارات التفكير النقدي ليتعاملوا بوعي مع ما يشاهدونه.
فيما يلي محاور أساسية أو روشتة لكل أب وأم للتعامل مع الأبناء:
-اختيار أصدقاء الطفل بعناية، فالسياق الاجتماعي يشكّل سلوكه ووعيه.
-تشجيع الطفل على الأنشطة الرياضية، والفنية، والقراءة، لتوسيع آفاقه وتنمية شغفه بما هو نافع وجميل.
-تقنين استخدام الأجهزة الذكية، وتحديد أوقات مخصصة لها، وتوجيه المحتوى ليتناسب مع عمر الطفل ومستوى نضجه.
-تعزيز الحوار داخل الأسرة، فالتواصل الصادق هو الجسر الأول لبناء الثقة بين الآباء والأبناء.
وإلى جانب دور الأسرة في حماية الأبناء من الانهيار الأخلاقي في عصر السوشيال ميديا، هناك عوامل مجتمعية لا تقل أهمية، منها:
- لابد من تنظيم حملات توعوية في المدارس، والجامعات، ووسائل الإعلام، لتثقيف الشباب بمخاطر المحتوى السطحي والمضلل.
-دعم المبادرات الثقافية التي تعزز القيم الأخلاقية وتروّج للإبداع الهادف.
-دور فاعل للمؤسسات التعليمية، لا أن يكون هامشيًا أو شكليًا، من خلال:
-إدراج برامج تعليمية تُعنى بالاستخدام الآمن والمسؤول للتكنولوجيا.
-تنظيم ورش عمل دورية للطلاب والأهالي حول إدارة الوقت على الإنترنت، ومواجهة التنمّر الإلكتروني.
-تشجيع المحتوى الهادف، ودعم صناع المحتوى الجاد الذي يجمع بين الترفيه والمعرفة.
-الضغط على المنصات الرقمية لتطبيق معايير رقابية صارمة على المحتوى، وضبط التجاوزات.
قبل كل شيء، يجب تطبيق القوانين بحزم ضد من يروج للمحتوى الضار والمسيء، مع تطوير آليات رقابة توازن بين حرية التعبير، والحفاظ على القيم المجتمعية، من خلال تعاون فعال بين الدولة والمنصات الإلكترونية لتحقيق بيئة رقمية آمنة.
الخلاصة: الحل الحقيقي لا يكمن في محاربة التكنولوجيا أو القضاء على وسائل التواصل، بل في تربية الأجيال على كيفية التعامل معها بوعي ومسؤولية.. نحن لا نملك السيطرة على الزمن، ولكننا نملك قلوب أطفالنا، ونستطيع أن نكون قدوة لهم في هذا العالم المليء بالتحديات.
فلنعود إلى البدايات التي صاغت أجمل ما فينا، وكما قال الراحل سيد حجاب:
"ويرفرف العمر الجميل الحنون
ويفر ويفرفر في رفة قانون
وندور نلف ما بين حقيقة وظنون"
ربما لا نستطيع إيقاف الزمن، لكننا نملك أن نمنح أبناءنا لحظة صدق تضيء لهم المستقبل.

Trending Plus