التاريخ لا ينسى

دول وشخصيات عديدة لم ينس لها التاريخ مواقفها، ولم تتسامح الشعوب مع أفعال تلك الدول وهؤلاء الأشخاص، مهما طويت الأيام ومرت السنوات، ومهما حاولت الدول والشخصيات "التكفير" عن أفعالها وجرائمها وتبرئة ساحتها في زمن لاحق.
أمثلة كثيرة تدل على أن التاريخ لم يغفل ولم ينس والشعوب، ونذكر منها وبالمصادفة التاريخية ذكرى القنبلة النووية على هيروشيما اليابانية التي ألقت بها الطائرات العسكرية الأمريكية صبيحة السادس من أغسطس عام 1945، مما أسفر عن مقتل حوالي 140 ألف شخص.
وبعد 3 أيام، ألقت الولايات المتحدة قنبلة نووية أخرى على مدينة ناجازاكي في جنوب اليابان مما أسفر عن سقوط حوالي 74 ألف قتيل.
أي في أقل من 4 أيام قتلت الولايات المتحدة الأميركية 214 ألف إنسان ياباني في جريمة إنسانية بشعة لم ينسها التاريخ، ولم يغفر لها الضمير الإنساني حتى الآن، رغم كل ما قامت به الولايات المتحدة لنهضة اليابان..!
وفي التاريخ القديم لن يغفر الضمير الإنساني ولن تنسى ذاكرة الشعوب ما فعله المغول أو "التتار" خلال غزو البلدان الإسلامية والتوسع العسكري في القرن الثالث عشر الميلادي، مما أدى إلى سقوط العديد من الدول الإسلامية وتدمير مدنها، وبلغت ذروتها بمذبحة بغداد وسقوط الخلافة العباسية.
ومذبحة بغداد، واحدة من أكثر الأحداث دموية في تاريخ المدينة والعالم الإسلامي. قام المغول بقيادة هولاكو خان بتدمير بغداد وإبادة سكانها بعد استسلام المدينة بعد حصار دام 13 يوما وقتلوا مئات الآلاف من السكان، بمن فيهم الخليفة العباسي المستعصم بالله.. وتدمير بغداد وتخريبها على نطاق واسع، بما في ذلك تدمير المكتبات والمساجد والقصور.
التاريخ أيضا يحتفظ بخيانات لأشخاص عبر مئات وآلاف السنين وبقوا "نماذج" يضرب بها في الأمثال، نستحضر منهم مؤيد الدين بن العلقمي، وزير الخليفة العباسي المستعصم بالله، الذي خان بلاده وحاكمه وشعبه بالتواطئ مع التتار، حيث قام بمراسلة هولاكو قائد التتار، ليشجعه ويحفزه على دخول بغداد، والقضاء على الخلافة العباسية، فتردد هولاكو، وكان تردده لأن بغداد مدينة كبيرة ومحصنة ومليئة بالجند، فقد كان عدد الجند آنذاك 100 ألف جندي.
قام الوزير ابن العلقمي بإقناع الخليفة المستعصم بتسريح الجيش، بذريعة أنَّ نفقات الجيش أصبحت كبيرة، وبالفعل وافق الخليفة على تسريح الجيش، فكان الوزير يستدعي الآلاف من الجند إلى الديوان كل شهر، ويقوم بتسريحهم، ونفيهم من بغداد، وقطع الرواتب والمستحقات عنهم، فزاد ذلك في كرههم لابن العلقمي، ولم يبق من الجيش سوى 10 آلاف فقط، فدخل التتار بغداد بسهولة بسبب خيانة "ابن العلقمي"
وفي تاريخنا المصري الحديث كانت حادثة دنشواي عام 1906وقصتها المعروفة والتي حوكم فيها 36 فلاحا مصريا وتم إعدام 4 منهم، والأشغال الشاقة المؤبدة وبالسجن على الآخرين. كان مدعي النيابة في المحاكمة هو المحامي المصري الشهير إبراهيم الهلباوي الذي نجح في تبرئة ضباط الاحتلال وجنوده من القتل وحرق الأجران، و إثبات أن أهالي دنشواي هم المذنبون، واستخدم فصاحته ومواهبه ليثبت أن حريق جرن الغلال كان متعمداً من قبل الفلاحين لإخفاء معالم جريمتهم التي أرادوا منها التحرش بالضباط.
ووفقاً لما نشرته «الأهرام» ادّعى الهلباوي في مرافعته أن: «الاحتلال الإنجليزي لمصر حرر المواطن المصري وجعله يترقى ويعرف مبادئ الواجبات الاجتماعية والحقوق المدنية».. وقال أيضاً: «هؤلاء الضباط الإنجليز كانوا يصيدون الحمام في دنشواي ليس طمعاً في لحمٍ أو دجاج، ولو فعل الجيش الإنجليزي ذلك لكنت خجلاً من أن أقف الآن أدافع عنهم».. وقال عن الأهالي: «هؤلاء السفلة وأدنياء النفوس من أهالي دنشواي قابلوا الأخلاق الكريمة للضباط الإنجليز بالعصي والنبابيت، وأساءوا ظن المحتلين بالمصريين بعد أن مضى على الإنجليز بيننا خمسةٌ وعشرون عاماً، ونحن معهم في إخلاص واستقامة.!".
الضمير الشعبي لم ينس فعلة الهلباوي ولقبوه بـ"جلاد دنشواي" وقاطعه كثير من المصريين، فلما أحس بفداحة سقطته قرر أن يدافع بنفسه عن إبراهيم الورداني الذي اغتال بطرس غالي وزير الحقانية بالإنابة رئيس محاكمة أهالي دنشواي.. ونقلاً عن مذكراته التي أصدرتها «الهيئة العامة للكتاب» عام 1995 وقف في محاكمة الورداني يقول:«المصريون كلهم كرهوا محاكمة دنشواي، واحتقروا كل من شارك فيها ودافع عن المحتلين الإنكليز.. ولست هنا في مقام التوجع ولا الدفاع عن نفسي.. ومع ذلك أستطيع أن أؤكد أن الشعب المصري يحتقر كل من يدافع عن المحتلين أو يأخذ صفهم أو يبرر جرائمهم.. وأؤكد أيضاً أن مواطنينا لم يقدروا الظروف التي دفعتني أنا وغيري إلى ذلك.. لهذا جئت للدفاع عن الورداني الذي قتل القاضي الذي حكم على أهالي دنشواي بالإعدام.. جئت نادماً أستغفر مواطنينا عما وقعت فيه من أخطاء شنيعة.. اللهم إني أستغفرك وأستغفر مواطنينا». رغم الندم ظل لقب جلاد دنشواي ملتصقا حتى الآن بالهلباوي.
بالعودة الى ما يحدث الآن من حرب إبادة وتجويع وتشريد وحصار ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة فالتاريخ- كما قال الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال مؤتمر صحفى مشترك مع رئيس جمهورية فيتنام الاشتراكية يوم الثلاثاء الماضي- سوف يتوقف كثيراً وسيحاسب وسيحاكم أشخاصا كثيرين ودولا كثيرة على موقفهم من هذه الحرب، ولن يظل الضمير الإنساني صامتاً بهذه الطريقة.
التاريخ سيحاسب دولا وأشخاصا على موقفها من حرب الإبادة والتجويع والحصار والتعطيش على غزة، وسيأتي اليوم التي تعرف فيه الشعوب من هي هذه الدول ومن هم الأشخاص.
التاجات

Trending Plus