حروف الجر.. ترمومتر الحرارة اللغوية

حروف الجر من حروف المعانى التى تبلغ ـ تقريبا ـ 80 حرفا، تشمل حروف النفى والتشبيه والتسويف والجزم والنصب وغيرها، وتختلف هذه الحروف عن حروف المبانى كون الثانية تختص بالرسم الإملائى لكلمات المعجم، ونفرق بين النوعين بـ"الإزالة"، ففى الحين الذى يستساغ فيه إزالة حرف المعنى دون أن يتأثر أصل الكلمة ومعناها الأساسى، لا يمكن إزالة حرف المبنى دون أن يتأثر أصل الكلمة ويذهب معناها.
واستخدام هذه الحروف يحتاج إلى حساسية لغوية كبيرة، وبالأخص حروف الجر العشرين (على الغالب من أقوال النحاة)، فهى تحدد المستوى اللغوى لمستخدمها، كما تبرز بصمته الأسلوبية الخاصة، بخصائصها التى تجعل استعملها فى حاجة إلى الدربة والتبصر.
ورغم أن الحرف هو رسم إملائى لا معنى له فى ذاته، إلا أن هذا الافتقار إلى جملة تحدد معناه ينقلب إلى سيطرة منه عليها، فقد يعكس معناها، ومن هذا ـ مثلا ـ الفعل "رغب" الذى يتعدى بأحد حرفين هما: "عن" و"في"، فالمعنى مع الحرف الأول عكسه مع الثانى، وهناك ـ مثلا ـ "من" المصدرية و"في" الظرفية فكل منهما يذهب بالجملة فى طريق بعيد عن الآخر، ويزيد من إرباكها للمستخدم أنها تنوب عن بعضها أو تتوسع فى معانيها، وتأتى أصلية وزائدة وشبيهة بالزائدة، وتجر الظاهر والمضمر، بل وتؤثر فى الإعراب حتى وهى محذوفة (مثل الاسم المنصوب على "نزع الخافض")، وتستخدم للربط وتحديد العلاقات بين الجمل والكلمات، كما أن معانى الحرف الواحد منها يتعدد، فحرف "من" ـ مثلا ـ يستخدم للتبعيض، والتعليل، والابتداء، والبدلية، وغيرها، وحرف الـ"و" يأتى كحرف جر، وإن لم يكن فهو على أنواع أخرى غير الجر، منها واو الحال، واو المعية، واو العطف، واو الاستئناف، واو الثمانية، وغير ذلك من خصائص.
وإذا أردنا أن نضع أيدينا على الاستخدام الدقيق المتسم بالحساسية والهيمنة على هذه الحروف فلن نجد نصًا أقوى من القرآن الكريم ـ مصدر اللغة الأول ـ لنلجأ إليه، فاستخدامات حروف الجر فيه نالت عددًا من الأبحاث والدراسات البلاغية واللغوية (ضمن حروف المعانى عامة) فى أكثر من جهة أكاديمية، ومنها: "معجم حروف المعانى فى القرآن الكريم" لمحمد حسن الشريف، فى ثلاثة مجلدات (صادر عام 1996)، وكتاب "الوافى فى حروف المعانى" للدكتور صلاح عبد الله بجامعة الملك فيصل، وبحث "قراءات فى حروف المعانى فى القرآن الكريم" للباحثة نسرين شحدة أحمد، بالجامعة الإسلامية بغزة، وغيرها من دراسات.
ولنأخذ مثالًا سريعًا على العمل المفصلى الذى تؤديه هذه الحروف فى بناء الدلالة وصياغة التركيب من قوله تعالى: ﴿قالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِى ضَلَالٍ مُّبِينٍ 60 قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِى ضَلَالَةٌ وَلَٰكِنِّى رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ 61﴾ (الأعراف).
فحرف الجر "فى" مع لفظ "ضلالة" أعطى معنى الظرفية، فأدخل نبى الله نوحًا (من وجهة نظر قومه) فى الضلال، فهى ظرفية تفيد "التخلل" حتى تمام "الإحاطة"، فأغنى هذا عن جمع المصدر "الضلال" بما يفيد التأكيد والتضخيم، ويأتى الدفع لهذه الصياغة المرتكنة لحرف الجر بصياغة أخرى مرتكنة إلى حرف جر آخر، فى قول نوح "لَيْسَ بِى ضَلَالَةٌ"، فالباء فى "بى" تفيد الالتصاق، وهو منفى بـ"ليس"، والمصدر "ضلالة" اسم مرة، ومن ثمّ فنوح عليه السلام ينفى أن يكون قد التصقت به ضلالة واحدة فضلا عن أن يكون غارقا فى الضلال، هذه التهمة أحكمت صياغتها بحرف جر يفيد الظرفية ودفعت بصياغة أخرى لا تقل إحكاما بحرف جر يفيد الالتصاق المنفى.
مثل هذه "الحساسية" و"الدقة" فى استخدام حروف الجر وحروف المعانى بعامة كثيرة فى القرآن الكريم وفى غيره، فهى تبنى الانعطافات المفصلية فى المعنى، ويناط بها مستويان من الاستعمال، الأول "وظيفى" يكتفى به الكاتب التقليدى، ومنه: التشبيه، والتوكيد، والظرفية المكانية والزمانية، والاستعلاء، والتعليل، والمصاحبة، والترتيب، والتعقيب، والسببية، والتبعيض.. إلخ، والثانى "بلاغى" يستخدم فى الصياغات اللغوية الخاصة بلغة الأدب والكتابات القانونية التى تحتاج دقة الصياغة؛ كونها تتعلق بالحقوق والواجبات، وهى حروف موجودة فى كل لغات العالم تقريبا، ووظائفها متشابهة.

Trending Plus