أسفار الحج (12).. "المصرى" أول من صور الكعبة والمسجد النبوى

نستكمل رحلة تصوير الحرمين الشريفين وتوثيق الرحلة إليهما من مصر بالصوة والخرائط ووصف الطرق والمدن والقرى فى الطريق إلى الحرمين الشريفين، على يد محمد باشا صادق ... فقد عاد من رحلته الاولى من مصر للمدينة ومنها الى مكة ليقدم خرائط ورسومات دقيقة عن طرق ومسارات السفر من مصر إلى المدينة ومن المدينة إلى مكة ثم العودة إلى مصر واصفا طبيعة جغرافيا الأماكن وأهلها وأجوائها وعموم بيئاتها.
وبعد مرور عشرين عامًا على زيارته الأولى في 1860 وبالتحديد فى 1880 وكما سرد فى كتابه الثانى وهو الأكثر شهرة بين جميع مؤلفاته وهو "مشعل المحمل" من 60 صفحة وطبع في 1867 وطبعته الثانية في 1881 بمطبعة وادى النيل فى القاهرة، ويتناول الكتاب ... رسالة فى سير الحاج المصرى برًّا من يوم خروجه من مصر إلى يوم عودته مذكور بها كيفية أداء الفريضة.
وأهم ما يميز هذه الرحلة هو أن صادق باشا أن كانت مهمته "أمين صرة المحمل المصرى" عن طلعة عام 1297هـ، فقبل أن يصف طرق ومسارات رحلة الحج من مصر إلى الحرم المكى الشريف، وقبل استطراده فى شرح مناسك الحج ومحطاته فى ذاك الكتاب "مشعل المحمل" بدأ يصف تفاصيل دقيقة عن سير المحمل المصرى من القاهرة المحروسة إلى مكة المكرمة:"... إنى قد استخرت الله في أن أشرح ما شاهدته برًّا فى طريق الحج الشريف من كل مأمن أو مخيف وما هو جارٍ في كيفية أداء هذه الفريضة الإسلامية ليكون دليلاً مختصرًا مفيدًا للأمة المحمدية وخدمة لأبناء الوطن، ولم أذكر شيئًا بمجرد الظن بل عولت في الغالب على الاقتصار في ذكر الحسن، وسميته بمشعل المحمل وعلى الله سبحانه وتعالى أتوكل، وإن وجد فيه شىء لا ينبغى أن يذكر فإنما ذكرته أداءً لحق الوظيفة مع التلطيف ليكون قدوة ودليلاً لمن يتوظف من الآن وليس الخبر كالعيان"... ويستطرد فى كتابه عن مهمته الجديدة:" ... في يوم 20 من ذى الحجة 1297هـ الموافق 23 نوفمبر 1880 تيسر لي في هذه الأيام أخذ رسم المسجد المكى والكعبة بالفوتوغرافيا، وأخذ رسم مسطحه على قدر الإمكان مع كثرة الازدحام وعدم الفراغ".
أما بداية الرحلة من مصر المحروسة فقال عنها:"... من ميدان محمد علي في الساعة الثالثة بحضور ذى العز والطبع الشفيق جناب الخديوي الأعظم محمد باشا توفيق واستلم سعادة أمير الحاج اللواء عاكف باشا زمام جمل المحمل كالعادة من اليد الشريفة الخديوية بحضور النظار (يقصد الوزراء) العظام وقاضي أفندي وشيخ الإسلام وجميع الذوات الفخام والأمراء وسار في موكب عظيم.."
واصطحب الخديوى الموكب المرافق لقافلة الحجاج المصريين إلى مكة تحت إمارة اللواء عاكف باشا، والتى كانت تقطع الطريق البرى عبر سيناء نزولا على ساحل البحر الأحمر، ...وذكر محمد صادق باشا فى كتابه الذى وثق الرحله :"... أن الموكب كان معنيا فى الأساس بحفظ الصرة، والمحمل (وفيه كسوة الكعبة)، وخدمة وحماية الحجاج، وركب المحمل فى المناطق والقرى التى يمر بها، كان الفوج يضم 241 عسكريا ومدفعين جبليين، وثلاثة وعشرين طوبجياً (مدفعياً)، بما فى ذلك حكيم (طبيب)، وأجزجى (صيدلي) وكليهما برتبة يوزباشى، وفراشين لنصب الخيام، وضوئية لإشعال الأضواء، وسقائين وأمناءالكساوى لتفرقتها علي العربان، وما إلى ذلك مما يكفى خدمة الحجاج".
وكانت مهمة صادق باشا فى الفوج "أمين الصرة" نائبا عن الخديوى فى شئون الأموال المرسلة إلى الشريفين، وذكر محمد صادق :" ... مبلغ الصرة كان 1363417 قرشاً للصرف على خدمة الصرة ذهاباً وإياباً ومرتبات العربان ومجاورى مكة والمدينة وغيرها فضلاً عن الأمانات التى ترسل لأربابها ثلاثة قناطير من الشمع السكندرى، وعدد من الأكراك والبنشات والأقمشة والشيلان الكشميرية والشاش الأبيض"... وللقارىء تفسير دون عناء لوصف تفصيلى لمهمة والتزانات "الصرة المصرية" إلى الحرمين الشريفيين ومن يجاورهما!.
ووصف محمد صادق:"... تحرك المحمل فى موكب عظيم وصل العباسية في تمام الساعة الخامسة، وفى اليوم التالى تم استلام صرة المحمل من خزينة الروزنامجة بحضور أمير الحاج وأمين الصرة والكاتب والصراف والروزنامجى ونائب الشرع والشهود... وفى اليوم الثالث تم استلام كسوة الكعبة الشريفة، وهي من إحدى عشرة قطعة، وفى يوم الخميس 25 محرم 1297هـ الموافق 30 سبتمبر 1880م أطلقت مدافع القيام، وتحرك الموكب قاصدًا الأراضي الحجازية".
وبمجرد حلوله بمكه أصبح أول إنسان يصور مكة والمسجد الحرام والكعبة ومخيمات الحج فى منى وعرفات، ومنظر الحجاج، والصفا المروة، وقبر والدى النبي – عليه الصلاة والسلام وآله وصحبه الكرام.
كما التقط صورة للشيخ عمر آل الشيبى سادن وحامل مفتاح بيت الله الحرام، واللافت أن صادق باشا قام بهذه المغامرة مع علمه بالفتاوى الذي صدرت لتحرم التصوير مثل كتاب أصدره الشيخ المكى محمد حقى النازلى في القاهرة فى العام نفسه، فقد حرم فيه التصوير بشكل واضح، ... وقد حاز صادق باشا على ميدالية ذهبية من الدرجة الأولى فى معرض ونيزيا عام 1881م على هذه الصور التي التقطها ولم يسبقه أحد.
وفى عام 1302هـ ـ 1884م زار محمد صادق باشا الأراضى الحجازية مرة أخرى بصفة رسمية لكونه أمين صرة المحمل، ودوّن تفاصيل هذه الزيارة فى كتابه الثالث: "كوكب الحج فى سفر المحمل بحرًا وسيره برًّا"، طبع بالمطبعة الأميرية ببولاق مصر المحمية سنة 1303 هجرية، وتوفيت زوجته فى مكة أثناء الحج فى هذه الرحلة، وكفنت ودفنها الزوج المخلص في المدينة المنورة.
وكانت الرحلة الأخيرة له للحرمين الشريفين فى عام 1303هـ ـ 1885م وكان موفدًا رسميًّا من قبل وزارة المالية المصرية في مهمة تسليم قمح "صدقتى مكة المكرمة والمدينة المنورة" عن سنة 1885م وقدم تقريرًا مفصلاً عن هذه الرحلة إلى وزارة المالية موضحًا فيه مراسم الاستقبال والتسليم كما جرت العادة على ذلك.
وفى عام 1896م قرر صادق باشا أن يقوم بعمل تجميع لمؤلفاته الثلاثة، وضمها في مؤلف واحد هو: "دليل الحج للوارد إلى مكة والمدينة من كل فج"... وطبع الكتاب الجامع للكتب الثلاثة بالمطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر المعزية سنة 1313هـ ـ 1896م.
وبسبب صوره عن الحرمين نال الباشوية وعين محافظا لمدينة العريش، وبعد شهرين أُصيب إثر ضربة شمس نقل على أثرها إلى القاهرة وتوفى فى 1902
وعلى نحو ما اتبعه بقية المصريين الحاجيين والمعتمرين بأن حذو حذوه فى توثيق رحلة الحج أو العمرة أو زيارة مقام حضرة سيدنا النبى صلى الله عليه وسلم وبارك.

Trending Plus