دير درنكة.. قبلة المحبين فى مولد العذراء مريم.. احتفالات روحية وشعبية تمتد لأسبوعين فى أقدم مزارات العالم المسيحى.. موعد سنوى ينتظره ملايين المصريين.. وهذا أصل حكاية الدير وارتباطه بالعائلة المقدسة

فى قلب محافظة أسيوط، وتحديدًا عند سفح جبل درنكة، يتجدد اللقاء كل عام بين جموع المصريين ومحبي السيدة العذراء، من مسيحيين ومسلمين، في واحدة من أبرز الفعاليات الروحية في مصر احتفالات مولد العذراء مريم في دير السيدة العذراء بدِرنكة، والتي تبدأ في 7 أغسطس من كل عام وتستمر حتى 21 أغسطس، لتتزامن مع صوم السيدة العذراء لدى الكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
وهذا الاحتفال ليس مجرد مناسبة دينية، بل تظاهرة روحية وثقافية وشعبية كبرى تستقطب مئات الآلاف من الزوار سنويًا، حتى أصبح دير درنكة أحد أكبر المزارات المسيحية في الشرق الأوسط.
تاريخ دير درنكة وارتباطه بالعائلة المقدسة
وذكر الموقع الرسمي للكنيسة القبطية الأرثوذكسية أنه تعود أهمية دير درنكة إلى كونه إحدى محطات رحلة العائلة المقدسة إلى أرض مصر، إذ يُعتقد أن السيدة العذراء والمسيح الطفل ويوسف النجار مكثوا فى إحدى المغارات بجبل أسيوط، والتي بُني عليها لاحقًا الدير الحالي في القرن الأول الميلادي.
ومنذ ذلك الحين، صار هذا المكان مقصدًا للزوار من كل أنحاء العالم، وبلغت شهرة دير درنكة ذروتها بعد توثيق الكنيسة القبطية لزيارات العائلة المقدسة.
طقوس احتفالية مهيبة في ظل الصوم
وتتزامن احتفالات المولد مع صوم العذراء مريم، وهو صوم يمتد لـ15 يومًا، يلتزم فيه الأقباط بالطعام النباتي والصلاة المكثفة والتسابيح.
وفى أثناء فترة المولد، يُقام قداس يومي صباحًا، وصلوات عشيات وتسبحة نصف الليل مساءً، إضافة إلى عظات روحية يلقيها الأنبا يوأنس، أسقف أسيوط ورئيس الدير، ويشاركه فيها عدد كبير من الآباء الأساقفة والكهنة من مختلف الإيبارشيات.
الأجواء الروحية.. حين تتوحد القلوب
وتتحول منطقة درنكة بالكامل إلى مدينة من النور والتسبيح، حيث تنصب آلاف الخيام لاستقبال الزوار، وتُضاء الشموع والمصابيح الملونة حول الكنائس والمغارات، بينما تعلو الترانيم القبطية والموسيقى الروحية التي تبث عبر مكبرات الصوت في كل أرجاء المكان.
الزائرون يتوافدون بأعداد ضخمة من مختلف المحافظات، منهم من يأتي طلبًا للبركة، وآخرون لشكر السيدة العذراء على شفاعة أو معجزة، وهناك من يعتبرها رحلة سنوية لا تُفوّت.
الترانيم والموالد.. صوت العذراء في القلوب
ومن أبرز ما يميز المولد هو طقس التسبيح الجماعي، حيث تصدح أصوات المرتلين بترانيم شهيرة مثل: "يا أم النور يا بكر بتول"، و"شفيعتنا يا عدرا يا أم المسيح".
كما تُقدم فرق الكورال عروضًا تراتيلية باللغة القبطية والعربية، وتُنشد القصائد التي تروي سيرة العذراء، وسط تجاوب حار من الحاضرين الذين يُرددون كلمات المحبة والسلام.
مشاركة جماهيرية واسعة وأجواء تراثية
ويشارك في الاحتفال كل عام الآلاف من الأقباط والمسلمين، في مشهد يعكس عمق التعايش المصري.
تُقام على هامش المولد بازارات شعبية لبيع المشغولات اليدوية والتحف الدينية والكتب الروحية، وتنتشر عربات المأكولات التقليدية التي تقدم الفول والبطاطا والذرة المشوية، في أجواء أقرب إلى الموالد الصوفية.
كما تولي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية اهتمامًا بالغًا بتنظيم المولد، بالتعاون مع الجهات الأمنية والصحية، لتوفير الراحة والخدمة للزوار، خاصة مع ارتفاع درجات الحرارة ووعورة الطريق الجبلي.
الأنبا يوأنس.. قائد الموكب الروحى
ومن أبرز الشخصيات التي ترتبط بمولد العذراء بدير درنكة هو نيافة الأنبا يوأنس، الذي يعتبر رمزًا روحيًا وشعبيًا لهذه الاحتفالات.
ويقوم نيافته كل عام بإلقاء عظات روحية يومية، كما يحرص على مقابلة الزوار وإعطاء البركة، ويترأس القداسات الكبرى التي تُقام في ختام الاحتفال، وسط حضور أساقفة من مختلف الإيبارشيات.
نقطة جذب للسياحة الدينية
بات مولد العذراء في درنكة من أهم الفعاليات السياحية الدينية في مصر، وتدرج وزارة السياحة والآثار هذا الحدث ضمن خريطة مسار العائلة المقدسة، التي تهدف إلى تنشيط السياحة الروحية واستقطاب الزوار من الخارج، خاصة من الكنائس الإثيوبية والروسية والرومانية.
احتفال يتجاوز الزمان والمكان
ورغم التحديات اللوجستية وكثافة الحشود، يظل مولد العذراء في دير درنكة حدثًا فريدًا من نوعه، يحمل طابعًا مزيجًا من القداسة والتراث الشعبي.
ففى هذا المكان الجبلى الصامت، تنبض الحياة كل عام بإيمان الزائرين ودموع المتعبدين، وتصبح درنكة على مدار أسبوعين واحة للرجاء والسلام لكل من يلجأ إلى أم النور.

Trending Plus