عاطف محمد عبد المجيد يكتب: أيام مودى حكيم الحلوة فى لبنان!

أصعب الكتابات تلك التى تتناول زمنًا مضى بناسه، فتستدعيه من كعب الذاكرة لتمر أمامك وجوه كنت تأنس لها وتحبها، وأخرى مرت عجلى لكنها أثرت فيك، ثم للحظات يأخذك الحزن بعيدًا وتشعر بمرارات غياب تلك الوجوه عنك، وتعود ترسم بالأحرف والحبر على مساحة الورقة البيضاء أمامك ذكريات ما كان وجرى ومضى من أيام وشهور وسنوات بحلوها ومرها، بحزنها وفرحها، بإخفاقاتها ونجاحاتها.

هذا ما يبوح به مودى حكيم فى كتابه الصادر عن الدار المصرية اللبنانية "أوراق الغربة.. أيام فى لبنان"، ذاكرًا أن هذه أوراق من تذكارات الغربة، وهى من لحم ودم، لأنها تجربة حياة رجل طموح من بلاد النيل حمل ذات يوم حقيبة سفر فيها قلم ومسطرة وممحاة وسافر إلى بلاد غريبة يسعى فى مناكبها، مشيرًا إلى أنه لم يدُر بخلده لحظة واحدة وهو يدخل مكاتب مجلة صباح الخير حاملًا إليها كل ما تعلمه وعرفه من كلية الفنون الجميلة أنه سيأتى يوم ويتركها خلفه ويعطى وجهه لبلاد سمع عنها ولا يعرفها، لتطويه الغربة بعيدًا عنها وعن مصر سنوات كانت خليطًا من معاناة البعاد وفرح النجاح ونشوته.  

هنا يكتب مودى حكيم عن رحلة غربته إلى لبنان، مشيرًا إلى أن قرار الغربة بالنسبة له لم يكن السعى وراء ما لا يلقاه فى بلاده كما يفعل بعض المصريين الذين يهاجرون ويغتربون للحصول على ما لا يتوافر لهم فى البلاد، إنما كان عرض عمل فى لبنان لا يفك ارتباطه بمؤسسة روزاليوسف ولا يبعده عن صباح الخير التى أعطاها سبع سنوات من عمره، ذاكرًا أنه تعامل مع الغربة على أنها كشف واكتشاف، تعلم منها اختبار الذات والتأمل والاحتمال، وظلت مصر فى كل ذلك تعيش تحت جلده، بتاريخها وفرادتها وتميزها وسحر نيلها وعاداتها وتقاليدها وأعيادها، فالبعاد يقرب من الوطن، والغربة تشد دائمًا عنان النفس للأهل والأصحاب.
الغربة الأولى
كذلك يؤكد مودى حكيم أن لبنان كان الغربة الأولى وعشقه هو، وكان للمشرق حرية وصحافة ومرفأ مفتوحًا على العالم، كان مدرسة وجامعة ومستشفى، وثقافة ومطبعة وكتبًا ومكتبات وسياحة وجسرًا ممدودًا للعرب نحو الغرب وللغرب نحو العرب، وأن بيروت التى ترطن بكل لغات الأرض أعطته قلبها وحبها كله وبادلته العشق والوله، أعطته كل ما كان عندها من فن وثقافة وإبداع، وفيها مارس الحرية فى الكتابة والتفكير، مشيرًا إلى أنه عاش سنين الحرب برعبها ومراراتها، يخرج من البيت دون أن يعرف هل سيرجع أم لا، ورغم القصف والخطف والقتل إلا أن بيروت ظلت تعاند الموت.         

الحكيم الذى يقول إنه كما وجد اللبنانيون فى مصر موئلًا، كذلك وجد المصريون فى لبنان دارًا مضيافة ومع كرات السنين كبرت الجالية المصرية فى بلاد الَأَرز، يرى أن مقاهى بيروت لم تكن للترفيه، إنما كانت جزءًا حيويًّا من معالم بيروت، وكانت منتديات للقاءات الأدبية والفكرية، ومقرًّا للحركات السياسية والنقابية، ومركز تجمع لتحريك الرأى العام والتظاهرات وتنظيم الاحتجاجات والانتفاضات المطلبية والشعبية حتى باتت تعد معلمًا أساسيًّا من حركة بيروت، متوقفًا عند أشهر المقاهى التى احتضنت أصحاب الرأى فى بيروت، ذاكرًا منها مقهى لا دولتشى وهورس شو.

أيام في لبنان

أول مطبعة  

ما نعرفه من أوراق غربة مودى حكيم أن كثيرين فى العالم العربى لا يعرفون أن "حاضرة الفاتيكان" كانت أول من أسس مطبعة عربية فى التاريخ هى مطبعة فانو التى تقع وسط إيطاليا فى مقاطعة بيزارو وأوربينو ضمن إقليم ماركى وتطل على البحر الأدرياتي، ولولا تلك المطبعة لظل العرب يستنسخون كتبهم باليد، ويحتفظ متحف الفاتيكان بكتاب صلاة باللغة العربية من مطبوعات مطبعة فانو يعود تاريخه إلى سنة 1514.

نوادر توفيق الحكيم

كذلك نعرف من خلال حوار نادر للأديب توفيق الحكيم كشف فيه عن واقعة حدثت بينه وبين كوكب الشرق قائلًا: كانت أم كلثوم تقوم بحملة تبرعات من أجل النهوض بنقابة الموسيقيين وبالتالى جاء الدور على فطلبت منى أتبرع بمبلغ خمسة جنيهات فقمت على الفور بإعطائها المحفظة التى أضع فيها أموالى وعندما فتشتها وجدتها خالية لا يوجد بها أى مبلغ، وأضاف أنه كان يقوم بإخفاء النقود فى جراب نظارته وعندما علمت كوكب الشرق بخطته اندهشت وقالت: يا خبر! أنت حاطط الفلوس فى عينيك!

مقاهي بيروت

وفى أوراقه أيضًا نقرأ أنه ما من مثقف، مفكر، كاتب، شاعر، سياسي، أو فنان سواء أكان لبنانيًّا أم من بلد عربى آخر قُيّض له أن يعايش فى لبنان تجربة "دولتشى فيتا"، "هورس شو"، "إكسبرس"، "إتوال"، و "فيصل" إلا وانفطر قلبه التياعًا وهو يتذكر تلك المقاهى الخمسة، وغمره الحزن على بيروت التى كانت، وأن بيروت كانت تعيش مناخًا سياسيًّا وصحفيًّا منتعشًا، وأن اللبنانيين قد يختلفون على قضايا سياسية كثيرة، ويتفرقون كل حسب طائفته ونزعته السياسية والأيديولوجية، لكنهم فى جميع الظروف يجمعون ويتوافقون على شيء واحد هو اعتبار "الحرية" واحدًا من مبررات وجود بلدهم، وأن لبنان كان الأنموذج الفرد فى العالم العربي، مزيجًا من الثقافتين العربية والغربية، والمدارس فيه على تعددها، أمريكية وفرنسية تدرس اللغة العربية وتاريخ بلاد العرب، والمدارس الوطنية تدرس الإنجليزية والفرنسية واللاتينية، وبيروت لا ترد بابها أمام من طرقه من أوروبيين وأمريكان وأفارقة وآسيويين، فتسمع فى شوارعها وفى مقاهى أرصفتها كل لغات الأرض، مسيحيون، مسلمون، يهود، يتساكنون ويتعايشون فى نظام طائفى يمثل ثمانى عشرة طائفة. 

وهكذا، فى أوراق غربته، يحكى مودى حكيم تفاصيل رحلته إلى لبنان البلد الذى أحبه واختار أن يقضى غربته فيه، متحدثًا عن أيامه الحلوة فيه، مشيرًا إلى انخراطه فى الحياة الصحفية والسياسية فى لبنان، ومعايشته للحرب التى غيرت معالمه، ذاكرًا أنه عاش فيه فأعطاه الثقافة والحرية وفرص الإبداع والنجاح والتقدير والقيمة والشهرة والحظوة والبحبوحة حتى صار منه وهو منه.