أزمة تقشف تهدد فرنسا.. ماكرون يتمسك بإكمال ولايته للنهاية رغم تصاعد الضغوط السياسية والاقتصادية.. توقعات بسقوط حكومة بايرو فى تصويت الثقة بالبرلمان وسط رفض المعارضة.. ودعوات للإضراب العام وتراجع الثقة بالأسواق

تعيش فرنسا من جديد، أزمة مالية وسياسية غير مسبوقة تهدد استقرار ثاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو، مع تصاعد الجدل حول خطة الحكومة لخفض عجز الموازنة والديون المتفاقمة، واحتمال سقوط حكومة رئيس الوزراء فرانسوا بايرو فى تصويت الثقة المقرر فى الثامن من سبتمبر المقبل.
وأكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال مؤتمر صحفي مشترك فى مدينة تولون مع المستشار الألماني فريدريش ميرتيس، عزمه على إكمال ولايته الرئاسية حتى نهايتها، رافضًا أى دعوات للاستقالة أو الذهاب نحو انتخابات مبكرة.
وأعلن ماكرون دعمه الكامل لرئيس الوزراء فرانسوا بايرو، الذى قرر طرح حكومته لتصويت بالثقة فى البرلمان، فى خطوة وصفها محللون بأنها محفوفة بالمخاطر وقد تقود البلاد إلى مرحلة جديدة من الاضطراب السياسى والاقتصادى.
وقد طرح فرانسوا بايرو، خطة تقشفية تستهدف خفض الإنفاق العام بنحو 44 مليار يورو، عبر إجراءات تشمل إلغاء عطلتين رسميتين، تجميد مخصصات الرعاية الاجتماعية، تقليص الوظائف العامة، خفض بعض فوائد التقاعد، وزيادة الضرائب على الأغنياء، لكن الخطة استثنت الإنفاق العسكرى، حيث يعتزم ماكرون رفع ميزانية الدفاع تدريجيًا إلى 64 مليار يورو بحلول 2027، بما يعادل 3.5% من الناتج المحلى، انسجامًا مع التزامات فرنسا تجاه حلف شمال الأطلسى (الناتو) وضغوط الولايات المتحدة.
وأثارت هذه الإجراءات موجة غضب عارمة فى الشارع الفرنسى، حيث دعت النقابات العمالية إلى إضراب عام يوم 10 سبتمبر المقبل، فيما أعلنت أحزاب المعارضة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار رفضها الكامل لمقترحات التقشف.
وفى البرلمان، يواجه بايرو معركة شاقة، إذ يحتفظ الائتلاف الحاكم بـ210 مقاعد فقط، مقابل 180 مقعدًا لليسار و142 مقعدًا لأقصى اليمين، وكلا المعسكرين أعلن رفضه التصويت لصالح الحكومة، وإذا خسر بايرو الثقة، فسيضطر للاستقالة مع حكومته بأكملها، ما يضع ماكرون أمام ثلاثة خيارات صعبة: إعادة تكليف بايرو، أو اختيار رئيس وزراء جديد سيكون السابع منذ توليه الحكم عام 2017، أو الذهاب لانتخابات مبكرة قد تزيد المشهد تعقيدًا.
من جانبها دعت زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبن، إلى حل البرلمان، بينما صعد جان لوك ميلونشون، زعيم حزب "فرنسا الأبية" اليسارى المتطرف، هجومه على ماكرون، قائلاً: ماكرون هو الفوضى،ويجب أن يرحل، وأعلن أنه سيتقدم بمقترح لحجب الثقة عن الرئيس نفسه إذا سقطت الحكومة.
الأزمة لم تتوقف عند حدود السياسة، بل انعكست سريعًا على الاقتصاد والأسواق فقد شهدت بورصة باريس انخفاضًا حادًا، حيث تراجع مؤشر "كاك 40" بنحو 2% فى التعاملات الصباحية، كما هبطت أسهم البنوك الفرنسية وارتفع عائد السندات السيادية لأجل 10 سنوات، فى مؤشر واضح على تراجع ثقة المستثمرين فى الديون الفرنسية.
ويبلغ الدين العام لفرنسا 114% من الناتج المحلى الإجمالى، فى وقت لا يتجاوز فيه معدل النمو 1.2% فى 2024 مع توقعات بمزيد من التباطؤ إلى 0.6% فى 2025، وهو ما يجعل مهمة بايرو شبه مستحيلة، بحسب محللين.
فى حال سقوط حكومة بايرو، سيكون على ماكرون البحث عن بديل فى ظل انقسامات حادة داخل البرلمان وصعوبة تشكيل أغلبية مستقرة، وهو ما قد يضطره إلى الدعوة لانتخابات مبكرة. لكن هذا السيناريو محفوف بالمخاطر، خاصة فى ظل صعود اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبن، الذى حقق مكاسب كبيرة فى الانتخابات الأوروبية الأخيرة.
السيناريو الأكثر تفاؤلاً بالنسبة للحكومة هو امتناع أحد معسكرى المعارضة عن التصويت مقابل الحصول على تنازلات سياسية، وهو ما قد يبقى الوضع الراهن قائمًا مؤقتًا.
ويرى محللون سياسيون، أن أزمة فرنسا ليست سوى انعكاس لأزمة أوسع تعصف بأوروبا الغربية، ففى ألمانيا، تواجه الحكومة الائتلافية صعوبات مماثلة مع ارتفاع الدين العام إلى مستويات غير مسبوقة وتزايد الضغوط على نظام الرعاية الاجتماعية، أما بريطانيا، فتشهد حكومة كير ستارمر العمالية تمردًا داخليًا بسبب خطط خفض الإنفاق الاجتماعى لصالح زيادة ميزانية الدفاع، فى وقت يصعد فيه حزب "الإصلاح" بقيادة نايجل فاراج بقوة فى استطلاعات الرأى.
هذه التطورات تثير تساؤلات حول قدرة أوروبا على الوفاء بالتزاماتها الدفاعية تجاه الناتو وأوكرانيا، وسط ضغوط أمريكية متزايدة من إدارة الرئيس دونالد ترامب، الذى لا يثق كثيرًا فى الوعود الأوروبية بزيادة الإنفاق الدفاعى.
رغم كل هذه التحديات، يؤكد الرئيس الفرنسى تمسكه بمنصبه حتى نهاية ولايته، رافضًا الدعوات المتكررة للاستقالة، ومصرًا على المضي قدمًا فى خطة ضبط الموازنة، مع إعطاء الأولوية لحماية الإنفاق العسكرى، لكنه، وفق مراقبين، يواجه اختبارًا هو الأصعب منذ بداية ولايته، وقد تكون الأسابيع المقبلة حاسمة فى تحديد مستقبل حكومته ومصير المشهد السياسى الفرنسى بأكمله.

Trending Plus