بين المطرقة والإزميل.. شقيقان يرويان قصة عشق النحاس منذ الطفولة وحتى الاحتراف: بنشكل من المعدن تحف وأنتيكات.. رسوماتنا تتنوع بين الفرعونى والفارسى والإسلامى.. المنتج المصرى يحظى بتقدير العالم.. صور

في ركنٍ هادئ من مشغلٍ تغمره ظلال الإبداع، يجلس أخوان خلف طاولةٍ خشبية، وفي ملامحهما ينعكس التعب والحب، وفي صمتهما تنمو لغةٌ لا يفهمها إلا من عرف معنى أن يعمل بقلبين متآلفين وروحٍ واحدة. تتقاطع نظراتهما في صمتٍ مليء بالفهم، وتتحرك أيديهما بتناغمٍ عجيب فوق صفائح النحاس، كأن بينهما لغة خفية لا يسمعها أحد سواهما. يتبادلان المهارة حتى يتردد صدى الطرق في إيقاعٍ هادئ يصوغ الجمال من المعدن البارد، وبين ضربات دقيقة ولمسات حانية، ينبثق الجمال من صمت النحاس، وتولد الزخارف كأنها تنفّست الحياة لأول مرة.
الأخوان مسعد ومجدي
مشغل النقش على النحاس
وبينما كانت الأيادي الصغيرة لا تزال تتعلّم كيف تُمسك القلم لترسم أولى حروفها، كان مسعد محمد عبد المقصود، نقاش المعادن، يتعلّم كيف يُمسك أزميله الصغير، لينقش أولى بصماته على النحاس، يقول: "أفنيت من عمري أكثر من خمسة وأربعين عامًا بين النقش على النحاس وتطعيمه بالفضة. بدأت رحلتي مع هذه الحرفة في سن الثانية عشرة، حين كنت أتعلّم على يد إخوتي الكبار في الورش التي كانوا يديرونها. كبرتُ بينهم، وتشرّبت أسرار الصنعة. واليوم، أعمل أنا وأخي جنبًا إلى جنب، لا نحافظ فقط على رزقنا، بل نزرع في الشباب الذين يتعلّمون على أيدينا بذور المهنة، عسى أن يستمر هذا الفن، ولا تندثر معالمه".
مسعد محمد عبد المقصود نقاش المعادن
وفي وسط دوّامة الزمن المتغيرة، حيث تلاشت الكثير من الحرف، ظل النحاس والفضة على حالهما، لكن الظروف جعلت من عملهما تحديًا جديدًا، صار فيه كل قطرة عرق تبذل هي التي تحافظ على وجودهما: يضيف: "في الماضي، كان النحاس والفضة في متناول اليد، وكانت تكلفة تصنيعهما بسيطة، فكان عملنا وفيرًا، وطلب الناس على القطع مستمرًا. أما اليوم، فقد تغيّرت الأحوال. ارتفعت الأسعار، وأصبح الشغل يُنفذ حسب الطلب فقط. حتى عدد الصنايعية الماهرين بدأ يقل، ولم يعد هناك الكثير من الشباب المقبلين على تعلّم هذه المهنة. لذا، إن نظرت في السوق الآن، ستجد أن الأعمال اليدوية النحاسية باتت نادرة جدًا. ومع كل ذلك، نبقى صامدين، لأن هذه المهنة ليست مجرد مصدر رزق وأكل عيش يُفتح به بيوت وتُعيل به أسر.. إنها أمانة في أعناقنا".
فن النقش على النحاس
عند النظر إلى قطعة النحاس الخام، تبدو كلوحة بيضاء تنتظر أن يُحييها فن النقش والتطعيم، وتحويلها إلى تحفة فنية نابضة بالجمال. وهذا الفن لا يُحفظ إلا بمرور المعرفة من جيل إلى آخر، بتعليم الأبناء والشباب أسرار الحرفة، ليبقى الإرث حيًا لا يندثر، يقول: "كل ما أتمناه هو أن تتعلّم الأجيال الجديدة هذه الحرفة، لأنها ليست فقط مهنة نكسب منها رزقنا، بل تراث أصيل نحمله على أكتافنا ويجب أن نحافظ عليه. يكمن جمالها في تلك اللحظة التي أمسك فيها قطعةً من النحاس، خالية من أي رسمة أو حياة، فأبدأ في رسمها وتفصيلها، ثم أنقشها وأطعّمها وأشطبها، حتى تتحوّل بين يديّ إلى أنتيكة فريدة، تحمل روح الفن وتاريخ الحرفة".
التشكيل على المعدن
القطعة لا تبدأ إلا ككتلة باردة من المعدن، لكنها سرعان ما تخضع لمسيرة طويلة من اللمسات والعناية، تمرّ من ورشة إلى أخرى، حيث يتقاسم الحرفيون أدوارهم، كلٌ يضيف جزءًا من روحه إلى العمل، حتى تكتمل الصورة النهائية، يشرح: "القطعة النحاسية التي تُعرض في الفاترينة لا تولد هكذا فجأة… بل تمرّ على مراحل عديدة، وتشترك في صناعتها ورش متعددة، ولكل ورشة مهمتها، ولكل يدٍ فيها بصمة لا يمكن الاستغناء عنها. قبل أن تصلني، تكون قد مرّت على ورش متخصصة في التفصيل واللحام والصنفرة المبدئية. ثم تأتيني، فأقوم بمرحلة الحفر والنقش والتطعيم بالفضة. بعدها تعود إلى ورش أخرى، حيث تُنجز مراحل التشطيب النهائي من صنفرة وتلميع وتقفيل. إنها منظومة متكاملة، لا يمكن أن تخرج منها القطعة إلّا وقد مرّت بأيدٍ تحمل الحرفة في القلب قبل اليد".
مسعد عبد المقصود أثناء عمله
النقش على المعدن
وفي نهاية المطاف، يتخطى الفن حدود المكان والزمان، ويُسمع صوته في كل ركن من أركان العالم، لا يحتاج لترجمة، فالجمال وحده لغة يفهمها الجميع، يختم حديثه: "رغم ندرة هذا الفن اليوم، إلا أن له عشّاقه حول العالم. زبائننا يأتون من أوروبا – من ألمانيا، وفرنسا، وتركيا، وحتى إيران – كما يجد شغلنا تقديرًا كبيرًا في دول عربية مثل المغرب والجزائر. هناك، يعشقون الطابع الإسلامي في النقوش، ويطلبون منا تصاميم تحمل الخط العربي بجمالياته الفريدة. كما تختلف الأذواق بين النقش العجمي الذي يصوّر فرسانًا وأمراء، والفارسي بزخرفته الدقيقة، والفرعوني بروحه المصرية الأصيلة. كلها مدارس فنية نُتقنها، ونحاول أن نحافظ عليها في كل قطعة نخرجها للنور".
منتجات النقش على النحاس
وفي ركن من المشغل، يجلس مجدي محمد عبد المقصود، شيخ الصنعة كما يُعرف عنه في منطقة الدرب الأحمر، بوجه يحمل ملامح تعبٍ جميل، وتجاعيد تحكي حكاياتٍ من الطرق والنقش، وعيناه ما زالتا تلمعان بوهج الحرفة رغم سنوات الكفاح الطويلة، يقول بفخرٍ لا تخطئه الأذن: "نحن ستة إخوة في هذه المهنة، والتحق بنا ستة من أبناء إخوتي.. نحن أكبر عائلة في الصنعة، والجميع يعرف ذلك." وتبرق عيناه كلما تحدث عن أسرته، وكأنه يربط بين استمرار الدم واستمرار الحرفة، فالمهنة بالنسبة له ليست مجرد مصدر رزق، بل إرثٌ عائلي وذاكرة ممتدة.
مجدي محمد عبد المقصود شيخ الصنعة
"الصنعة اللي متغنيش تستر".. جملة قالها مجدي بينما كان ينقش خيوط الفضة على قطعة نحاس، مستذكرًا بداياته الأولى في المهنة: "بدأت وأنا في العاشرة من عمري.. لم نكن نتقاضى أجرًا في البداية، كنا نتعلم ونطرق النحاس بحب. كانت مكافأتنا البسيطة في نهاية الأسبوع ربع جنيه أو ريال كفيلة أن تجعلنا ننتظر الأحد بلهفة الأطفال"، ويضيف بصوتٍ تغلبه الحكمة: "لم تكن الفلوس هي الأساس.. الأساس أن تتعلم وتصبح صنايعي بحق".
مهنة يدوية عريقة
وحين يختلط صدى المطرقة بالمعدن، تبدأ رحلة التحول من قطعة خام صمّاء إلى تحفة فنية متكاملة. يروي الحرفي خطوات عمله بدقة وكأنها وصفة سحرية: "نحن نستقبل المعدن خامًا كما هو، ثم نفصله حسب ما نريد؛ قد يتحول إلى علبة أو طبق، أو ربما شاكوش، فازة، قُلة، مصباح، أو حتى شمعدان. بعد ذلك نرسم عليه وننقشه، ثم نطعمه بالفضة والنحاس، ونمنحه ألوانًا متعددة قبل أن يذهب لورش أخرى للتشطيب مثل السمكري والدقاق".
مجدي أثناء عمله مهنة النقش على النحاس
ويضيف وهو يشير إلى أدواته: "بعد النقش أقوم بعمل مجرى على جانبي القطعة حتى أثبت فيه الفضة بدقّات دقيقة لتتماسك. عملنا أشبه بالهندسة؛ برجل ومسطرة وقلم، نرسم أولاً ثم نحفر على الرسم، وبعدها نطعّم النقوش بالفضة أو النحاس، لتعطينا ألوانًا ثلاثة: الأبيض والأصفر والأحمر. لدينا عدة مخصّصة للنقش وأخرى للتطعيم أو التكفيف، لكن أصعب ما في مهنتنا هو الرسم، لأنه الأساس الذي يقوم عليه كل شيء، ولا بد أن يكون الحرفي رسامًا ماهرًا".
رسومات فرعونية
وحين ينحني فوق النحاس، تبدو حركاته أشبه بعازفٍ يطلق نغمةً من كل ضربة، يرسم زخارف فرعونية وإسلامية وفارسية بدقةٍ متناهية، ثم يملأ الشقوق بخيوطٍ من الفضة والنحاس، ليولد من تداخل الألوان الأصفر والأبيض والأحمر فنٌّ نابض بالحياة. ويقول بثقة: "مهنتي من أجمل المهن في العالم.. منتجنا المصري مميز، ويحظى بتقدير العالم، والسائح حين يراه يُبهر".
نقوش إسلامية
مجدي عبد المقصود خلال عمله
ثم يبتسم ابتسامةً هادئة تحمل معنى الرضا، قبل أن يختم حديثه بكلماتٍ صادقة تختصر رحلته كلها: "هذه المهنة سترتني وأطعمتني.. خمس وخمسون عامًا قضيتها بين مطرقة وإزميل، وسأبقى فيها حتى آخر يوم في حياتي.. الصنعة التي لا تُغني، تكفي أن تستر".
قصة عشق للنحاس
النقش على النحاس مهنة يدوية أصيلة
النقش على النحاس
فن يدوي أصيل
منتجات تشكيل المعادن
مهنة النقش على النحاس حرفة يدوية أصيلة
نقوش فريدة

Trending Plus