"التقويم القبطى" من حضارة الفراعنة إلى وجدان الكنيسة المصرية.. ارتباط وثيق فى تحديد موعد الأصوام والأعياد.. اعتمد عليه المصريون القدماء فى دورة الشمس والفيضان.. وبوصلة الفلاح فى معرفة مواعيد الزراعة والحصاد

مع حلول اليوم الحادى عشر من سبتمبر من كل عام، تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بعيد النيروز، رأس السنة القبطية، في مشهد يحمل مزيجاً من الطقوس الدينية والذاكرة التاريخية. لكن خلف هذا الاحتفال الممتد منذ قرون، يقف التقويم القبطي، أحد أقدم التقاويم في تاريخ البشرية، الذي ورثته الكنيسة القبطية عن المصريين القدماء، ليصبح فيما بعد ركيزة أساسية في تحديد أعيادها وأصوامها ومناسباتها الكبرى.
الجذور الفرعونية للتقويم
ويعود أصل التقويم القبطي إلى المصريين القدماء الذين كانوا أول من وضع نظاماً زمنياً منضبطاً يتماشى مع دورة الشمس والفيضان. اعتمد الفراعنة على مراقبة نجم "سيريوس" (الشعرى اليمانية) الذي يرتبط ظهوره بفيضان النيل، ومن هنا صاغوا تقويماً زراعياً يقسم السنة إلى ثلاثة فصول كبرى:
أخت (الفيضان)
برت (الإنبات)
شمو (الحصاد)
وكل فصل منها يمتد لأربعة أشهر، لتصبح السنة 12 شهراً، يضاف إليها 5 أيام تُعرف بـ"النسئ"، تُقام فيها الأعياد والاحتفالات الكبرى. هذه الدقة الزمنية مكنت الفلاح المصري من تنظيم حياته الزراعية والدينية، ورسّخت التقويم كجزء لا يتجزأ من حضارته.
من "التقويم المصرى" إلى "التقويم القبطى"
ومع دخول المسيحية إلى مصر فى القرن الأول الميلادى، ظل المصريون يستخدمون تقويمهم الزراعى القديم، لكن نقطة التحول جاءت في عهد الإمبراطور الروماني دقلديانوس (284م)، الذي شهدت سنوات حكمه اضطهاداً واسعاً للمسيحيين في مصر، حيث قُتل عشرات الآلاف من الشهداء الأقباط. اعتبرت الكنيسة القبطية بداية حكمه نقطة بدء لتقويمها الكنسي، وأطلقت عليه اسم "تقويم الشهداء" تخليداً لدمائهم. ومنذ ذلك الحين، صار التقويم القبطي جزءاً من الهوية الدينية والروحية للأقباط.
الكنيسة القبطية والتقويم: الأعياد والأصوام
وذكر الأب دوماديوس كاهن كنيسة مارمرقس بأسوان، أن حياة الكنيسة القبطية ارتبطت بالتقويم القبطي ارتباطاً وثيقاً. فكل عيد أو صوم أو مناسبة كبرى له تاريخ محدد داخل هذا التقويم:
عيد الميلاد: يوافق 29 كيهك (7 يناير ميلادي).
عيد الغطاس: 11 طوبة (19 يناير ميلادي).
الصوم الكبير: يُحدد وفق الحسابات القبطية المعقدة المرتبطة بعيد القيامة.
عيد النيروز: رأس السنة القبطية، يوافق الأول من توت (11 سبتمبر).
ويُستخدم التقويم في تحديد مواعيد الأصوام الأخرى مثل صوم العذراء، وصوم الرسل، وصوم يونان، وغيرها. ومن خلاله، تحافظ الكنيسة على تسلسل زمني ثابت لطقوسها وعباداتها الممتدة منذ قرون.
التقويم فى الوجدان الشعبى
ولم يقتصر تأثير التقويم القبطي على الكنيسة فقط، بل بقي حاضراً في الوجدان الشعبي المصري حتى اليوم. فكثير من الفلاحين، خاصة في صعيد مصر والقرى الزراعية، لا يزالون يعتمدون على الشهور القبطية لمعرفة مواعيد الزراعة والحصاد. فكلمات مثل "هاتور" و"كيهك" و"أمشير" و"برمهات" ليست مجرد أسماء شهور، بل تحمل دلالات مرتبطة بالطقس والزراعة والعادات الشعبية.
عيد النيروز.. رأس السنة القبطية
وفي كل عام، ومع حلول الأول من توت، تبدأ الكنيسة القبطية سنتها الجديدة بعيد النيروز، الذي يرمز للشهداء والقديسين. ويصادف هذا العام يوم 11 سبتمبر المقبل، وهو ما يعكس استمرار هذا التقويم منذ آلاف السنين دون انقطاع.
النيروز كلمة فارسية تعني "اليوم الجديد"، لكن الكنيسة أعادت توظيفها لتصبح رمزاً لتجدد الحياة وخلود الإيمان، حيث تتلو الصلوات الخاصة بذكرى الشهداء، وتزين الكنائس بالزهور والريحان، إشارة إلى النقاء والانتصار الروحي.
من الماضى إلى الحاضر
ويظل التقويم القبطي شاهداً على عبقرية المصري القديم في تنظيم الزمن، وعلى صمود الكنيسة القبطية في الحفاظ على تراثها الروحي والتاريخي. فبينما وضعه الفراعنة لتتبع الفيضان والزراعة، تبنته الكنيسة ليصبح دليلاً لمناسباتها المقدسة، وبذلك جمع بين الزمن الزراعي والزمن الروحي.
ومع حلول عيد النيروز في سبتمبر المقبل، يجد المصريون –أقباطاً ومسلمين– أنفسهم أمام ذاكرة مشتركة، تعكس امتداد حضاري طويل، يجعل من التقويم القبطي ليس مجرد أداة لحساب الأيام، بل مرآة لتاريخ مصر الممتد منذ آلاف السنين وحتى اليوم.

Trending Plus