رحلة ربع قرن بين أبراج مانهاتن وأنقاض غزة حولت الولايات المتحدة من ضحية إلى مدان وشريك فى الإبادة.. حرب بوش منحت إسرائيل الضوء الأخضر لقتل الفلسطينيين فى 5 اعتداءات متتالية كلها تستنسخ «النموذج الأمريكى»

فى مثل هذا اليوم قبل 24 عاما، استيقظت أمريكا على زلزال مدوٍ، ليس إطلاق نار أو حادث دهس أو طعن، تلك المشاهد التى أصبحت متكررة فى عالم اليوم، بل كانت الهجمات الإرهابية الأسوأ فى تاريخ الولايات المتحدة. ففى يوم الثلاثاء 11 سبتمبر 2001، اختطفت مجموعة - تبين فيما بعد أنهم تابعون لتنظيم القاعدة - أربع طائرات مدنية، اقتحمت اثنتان منها برجى مركز التجارة العالمى فى نيويورك ليتهاوى البرجان بعد ساعات قليلة، وسقطت الثالثة فوق مبنى البنتاجون، بينما سقطت الرابعة فى بنسلفانيا.
مات فى هذا اليوم نحو ثلاثة آلاف شخص، لكن الملايين حول العالم دفعوا - وما زالوا يدفعون - ثمن الثلاثاء الأسود، بعد أن أعلنت أمريكا «الحرب على الإرهاب»، ورفع رئيسها آنذاك جورج بوش الابن شعار «من ليس معنا فهو ضدنا»، وقدمت واشنطن نفسها للعالم فى صورة ضحية للإرهاب، متناسية أو متجاهلة أنها من زرعت بذوره عندما دعمت بالمال والسلاح «المجاهدين» فى أفغانستان خلال فترة الغزو السوفيتى إبان الحرب الباردة.
فتح يوم 11 سبتمبر 2001 الباب لأمريكا لتعيث فسادا فى أفغانستان، التى بدأت حربا عليها فى الشهر التالى مباشرة من أجل القضاء على تنظيم القاعدة بزعامة أسامة بن لادن المختبئ فى كهوف البلاد، وإسقاط نظام طالبان الراعى له. وإن كانت قوات أمريكا، وبعد 20 عاما من الحرب، قد غادرت أفغانستان لتترك الحكم لطالبان!. ومن أفغانستان إلى العراق، حولت واشنطن بلاد الرافدين إلى مأساة طائفية بعد أن أسقطت نظام صدام حسين بزعم امتلاكه أسلحة دمار شامل، ودعمه لـ«بن لادن»، وأشعل العم سام حربا أهلية مزقت البلاد لسنوات بين سنة وشيعة وأكراد.
سمحت أمريكا لنفسها أن تطلق حربا على العالم، فأقر الكونجرس تفويض استخدام القوة العسكرية فى 14 سبتمبر 2001، وأصبح قانونا بتاريخ 18 سبتمبر 2001، ليخول للرئيس استخدام «كل القوة الضرورية والمناسبة» ضد من سماهم «مسؤولى أو داعمى هجمات 11 سبتمبر»، ووصف الرئيس بوش الحرب على الإرهاب بأنها «لا تنتهى حتى تهزم كل الجماعات الإرهابية ذات المدى العالمى».
وفى هذا الإطار، أطلقت واشنطن العنان لحليفتها إسرائيل بدورها لتعيث فسادا فيما تبقى من فلسطين المحتلة، واستغلت تل أبيب صدمة أمريكا ما بعد 11 سبتمبر لتصور نفسها أنها فى حرب هى الأخرى مع الإرهاب، وحاولت أن تصور للعالم المقاومة الفلسطينية ضدها بالإرهاب، الذى يجب دحره.
تقول د.نهى بكر، أستاذ السياسة الدولية بالجامعة الأمريكية، فى تصريحات لـ«اليوم السابع»، إن الحرب على الإرهاب شكلت إطارا سياسيا ودبلوماسيا عالميا أثر على العديد من الصراعات، بما فيها الصراع الإسرائيلى - الفلسطينى.
وأشارت إلى أن إسرائيل استخدمت خطاب مكافحة الإرهاب لتبرير عملياتها العسكرية فى غزة، معللة بأن جماعات مثل حماس والجهاد الإسلامى تمثل تهديدات إرهابية مماثلة للجماعات التى تستهدف الغرب. وساهم فى توفير دعم دبلوماسى من بعض الدول الغربية للعمليات الإسرائيلية وتقليل الضغط الدولى على إسرائيل. وفى بعض السياقات، تشكل خطابا إعلاميا يصور الصراع كجزء من الحرب العالمية على الإرهاب.
فى تقرير لمعهد دراسات الشرق الأوسط الأمريكى صدر عام 2021، بمناسبة مرور 20 عاما على هجمات سبتمبر، قال إن رد فعل واشنطن على الأحداث الإرهابية كان بداية النهاية الحتمية لعملية السلام فى الشرق الأوسط وأمل إقامة الدولة الفلسطينية، وأشار التقرير إلى أن رئيس وزراء إسرائيل فى هذا الوقت، المتطرف إرييل شارون، الذى كان يواجه الانتفاضة الفلسطينية الثانية، استغل حالة الصدمة الأمريكية والخطاب المتشدد لإدارة جورج بوش، ليعلن حربا على الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات، ووصفه بأنه «بن لادن إسرائيل»، وأعلن استهداف ما وصفه بالبنية التحتية للإرهاب فى السلطة الفلسطينية.
ورأى معهد الشرق الأوسط الأمريكى، أن موقف بوش من عرفات، الذى اعتبره الإرهابى الذى لا يتراجع عن مواقفه، قد سهل مهمة شارون، فطالب بوش الفلسطينيين باختيار قيادة جديدة قبل أى تقدم نحو السلام أو إقامة الدولة الفلسطينية.
تحول الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى، الذى استمر لعشرات السنين، إلى جزء من الحرب على الإرهاب التى لا حدود لها، وأصبح الفلسطينيون، بالنسبة للصقور المتشددين فى البيت الأبيض، مجرد جبهة أخرى فى حرب عالمية على الإرهاب.
وبعد أشهر قليلة من 11 سبتمبر، شن شارون هجوما عسكريا واسعا على الضفة الغربية وقطاع غزة، فيما كان أكبر عملية عسكرية إسرائيلية منذ احتلالها للضفة والقطاع عام 1967، قبل الحروب المتعاقبة على غزة لاحقا. فى هذه الحرب، وبدعم ضمنى من أمريكا، أعاد جيش الاحتلال الإسرائيلى احتلال المدن الفلسطينية وحاصر مقر الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات، فى رام الله، ودمر مطار غزة الدولى والعديد من الوزارات الحكومية كالصحة والتعليم والزراعة، وبعض البلديات وقوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية.
وحتى بعد انتخاب محمود عباس رئيسا للفلسطينيين فى 2005، لم يتم إحياء العملية السلمية كما وعدت أمريكا، بل تخلت إدارة بوش عن آخر خطة سلام جادة طرحت للصراع بين إسرائيل والفلسطينيين، والتى عرفت بـ«خارطة الطريق»، وفضلت واشنطن بدلا منها خطة إسرائيلية أحادية الجانب لفك الارتباط مع غزة والانسحاب منها، ومنحت شارون ضمانات بشأن مصير المستوطنات الإسرائيلية فى الضفة الغربية وعودة اللاجئين وغيرها من قضايا الوضع النهائى.
وحتى بعد وصول باراك أوباما الديمقراطى إلى البيت الأبيض عام 2009، ورغم رفض إدارته الكثير من سياسات سلفه جورج بوش الخاصة بإسرائيل وفلسطين، إلا أنها أبقت على السياسة الأشد أثرا، وهى الانقسام الفلسطينى وضعف السلطة السياسية، ومع استمرار هذا الانقسام لمدة 14 عاما، أصاب الشلل المشهد السياسى الفلسطينى.
ولم تكن رعاية أمريكا للإرهاب جديدة، فخلال النصف الثانى من القرن العشرين، دعمت الولايات المتحدة جماعات تستخدم الإرهاب لتحقيق أهداف سياسية سواء فى الشرق الأوسط أو أفريقيا أو حتى أمريكا الجنوبية. فعلى سبيل المثال قدمت واشنطن فى الفترة من 1981 وحتى 1991، الأسلحة والتدريب والدعم المالى واللوجستى لمتمردى الكونترا فى نيكاراجوا، وهى الجماعات التى استخدمت أساليب إرهابية فى حربها ضد حكومة البلاد، وكذلك دعمت الولايات المتحدة المنفيين الكوبيين، وأبرزهم أورلاندو بوش ولويس بوسادا كاريليس، اللذين تورطا فى تفجير الطائرة الكوبية، وأدينا بالعديد من العمليات الإرهابية، وكان كاريليس عميلا للمخابرات المركزية الأمريكية.
لكن الدعم الهائل الذى تقدمه أمريكا لإسرائيل، فهو مساندة وتمويل لإرهاب تمارسه الدولة، تجلى فى أبشع صوره فى محاولات التهجير القسرى للفلسطينيين من غزة، الفكرة التى طرحها صراحة دونالد ترامب فى إطار ما يسمى بريفييرا الشرق الأوسط، والتى لم تتخل عنها حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة، وتسعى لتنفيذها بشتى السبل.
وإلى جانب هذا، هناك إرهاب المستوطنيين، الذين يحظون بحماية من الحكومة الإسرائيلية ويمارسون أهوالا من تدمير وحرق وهدم بحق قرى فلسطينية كاملة فى الضفة الغربية التى يعترف بها المجتمع الدولى كأرض محتلة، لكن إدارة ترامب تسعى لتسهيل ضم الدولة العبرية لها.
فى مقال نُشر فى مارس الماضى بالمجلة الدولية للعلوم السياسية والعلاقات الدولية، تحت عنوان «إرهاب الدولة وراعيه.. الحرب الإسرائيلية فى قطاع غزة»، قال الباحث أوبيلوا أدسا أولوييمى، إن هناك أدلة دامغة على أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية ضد الفلسطينيين فى قطاع غزة، واستخدم مسؤولون إسرائيليون لغة مسيئة فى تصريحاتهم وخطاباتهم، ووصفوا الفلسطينيين فى غزة بأنهم «حيوانات بشرية»، كما أكدوا على هدف إلحاق أقصى ضرر ممكن، مشيرين إلى أن التركيز على التدمير وليس الدقة، باستخدام قوة نارية لم يسبق لها مثيل.


Trending Plus