سعيد الشحات يكتب: ذات يوم.. 11 سبتمبر 1883.. اللورد كرومر يبدأ سنوات خدمته معتمدا لبريطانيا وحاكما فعليا لمصر والخديو عباس الثانى يتذكره قائلا: «كان يهيننى ويهددنى بقدرته على الإطاحة بأسرتى خارج البلاد»

احتلت بريطانيا مصر بهزيمتها لأحمد عرابى فى التل الكبير يوم 13 سبتمبر 1882 وزحف قواتها إلى القاهرة ودخولها يوم 14 سبتمبر 1882، وفى 11 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1883، وصل اللورد كرومر إلى القاهرة ليكون قنصلا عاما وأول معتمد بريطانى فى مصر بعد الاحتلال، والحاكم الفعلى لها حتى ترك منصبه مجبرا وغادر مصر يوم 6 مايو 1907 بضغط القوى الوطنية التى قادها مصطفى كامل بسبب مذبحة دنشواى.
«كان كرومر أحد أعمدة الإدارة فى الإمبراطورية البريطانية الاستعمارية فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر ومن ثم يحظى بمكانة مهمة فى تاريخ بلاده»، بتقدير الدكتور أحمد زكريا الشلق فى مقدمته لمجلدى «مصر الحديثة»، ترجمة، صبرى محمد حسن، وألفه «كرومر» عن فترة ربع قرن قضاها فى مصر، ويضيف «الشلق»: «بدأ كرومر حياته بخدمة الإمبراطورية البريطانية فى الهند بوظيفة سكرتير نائب الملكة هناك بين عامى 1872 و1877، ثم لعب الدور الأكبر والأهم عندما جاء إلى مصر ليرسى قواعد الحكم الاستعمارى بها لنحو ربع قرن كان فيها الحاكم الفرد والحاكم الفعلى للبلاد».
يذكر «الشلق»: «لما كانت مصر تعد لتكون الدرة الثانية فى تاج الإمبراطورية البريطانية بعد الهند، فقد كانت سياسة كرومر الاستعمارية بل وشخصه نفسه بما عرف عنه من غطرسة وعناد مطلوبا لتنفيذ المشروع الاستعمارى فى مصر، وهذا يتطلب الانفراد بإدارة أمور البلاد، واستبعاد الخديو، واختيار وزراء مطيعين، وامتلاك المستشارين والمفتشين الإنجليز لزمام السلطة والإدارة المصرية، وهكذا صارت سلطة الخديو سلطة اسمية «شرعية»، بعد أن نجح القنصل العام «كرومر» فى فرض نوع من الحماية المقنعة ومارسها بكفاءة طوال حكم توفيق، وعندما تغيرت الأمور بوفاته عام 1892، بدأ الخديو عباس الثانى يتطلع لأن يكون خديويا حقيقيا وحاكما فعليا، اصطدم به كرومر وافتعل معه عدة أزمات تتعلق بشؤون الوزارات والإدارات وشؤون الجيش والحركة الوطنية المصرية، ولقنه درسا ليتعلم من أين تهب رياح السلطة».
يكشف الخديو عباس الثانى، طبيعة علاقته مع كرومر والتى استمرت 15 عاما متصلة بدأت منذ أن خلف والده توفيق، قائلا فى مذكراته «عهدى»: «كان إذا ما رغب فى شىء ما، يتحدث بشأنه مع رئيس مجلس النظار، ويطلب إليه أن يبلغنى بذلك، وفى علاقاته معى كان اللورد كرومر لطيفا دائما، وكان يقول لكل مستمعيه أنه يرغب فى أن يساعدنى ويتعاون معى بإخلاص، ولكنه كان يضيف بلهجة ساخرة: «إننى راض جدا عن نشاط صاحب السمو وعن شبابه»، الأمر الذى كان يعنى أن قلة خبرتى تدفعنى لعمل بعض الأخطاء، والواقع أنه كان يحاول دائما أن يهيننى ويقلل من شأنى، وكان كل مرة يأتى فيها لرؤيتى ويكون فيها غير منشرح السريرة يحاول أن يجرحنى، مدعيا أن الشعب المصرى كان يرغب فى أن يثور ضد الأسرة الحاكمة، وأن الإنجليز حضروا من أجل حمايتها وإعادة النظام، وكان يقول لى: «لا تنس أن الحركة العرابية موجودة دائما، وأننى إذا ما رفعت إصبعى الصغير، فإنه يمكنها أن تظهر من جديد، وأن تطيح بالأسرة خارج البلاد، وحينما كان يحدثنى بهذه الطريقة، لم أكن أرد عليه أبدا، إذ أننى كنت لا أرغب فى نشوب أزمة يمكنه أن يستغلها ضدى».
يضيف عباس الثانى: «لما أظهر الشعب المصرى ارتباطه بى دون تحفظات، وكانت المظاهرات الوطنية التى أظهرها الشباب المثقف لافتة تماما للنظر، غير كرومر موقفه تجاهى تماما، وأصبح خصمى المعلن»، وبأثر ذلك يذكر عباس كيف مضت المعاملة بينهما، قائلا اعتاد كرومر أن يؤكد: «إذا ما رفعت إصبعى الصغير، فإنه يمكننى أن أجعل الأسطول البريطانى يأتى من مالطة إلى الإسكندرية»، ويضيف: «لما كان يكرر هذه الجملة فى مناسبات مختلفة، فقد انتهى بى الأمر إلى أن أفهم ذلك التغيير الذى حدث له، وأجبته فى أحد الأيام بأننى كنت سعيدا، لكى أراه يلاحظ إلى أى مدى أصبحت أتمتع حينئذ بثقة الشعب، وأنه يكون حقا من غير المجدى استهلاك الفحم من أجل إحضار الأسطول إلى الإسكندرية، إذ أنه كان بالنسبة لى كان يكفينى قارب صغير وبحار للتجديف».
كانت حادثة دنشواى فى يونيو 1906 هى جريمة الاحتلال التى أنهت سنوات «كرومر» فى مصر، بفضل حملة مصطفى كامل ضده وضد الاحتلال البريطانى داخليا وخارجيا، ويذكر زكريا الشلق: «فى خطبة وداعه بدار الأوبرا يوم 4 مايو 1907 والذى قاطعه جميع السياسيين المصريين عدا ثلاثة هم، مصطفى فهمى باشا، ورياض باشا، وسعد زغلول باشا، لم ينس كرومر أن يعيد تكرار ما اعتبره إنجازات بريطانية تحققت بفضله فى مصر، ثم رمى المصريين بنكران الجميل فضل الاحتلال مع أن أولاد العميان يولدون عادة مبصرين، وبشر المصريين بدوام الاحتلال، وغادر مصر يوم 6 مايو 1907 إلى غير رجعة مصحوبا بلعنات الوطنيين المصريين».

Trending Plus