سعيد الشحات يكتب: ذات يوم..14سبتمبر 1939طلعت حرب يستقيل من رئاسة بنك مصر تاركا السؤال: «هل ترك منصبه بسبب سوء إدارته أم نتيجة مؤامرة حكومية عن طريق وزير ماليتها؟

قامت الحرب العالمية الثانية يوم 1 سبتمبر 1939، وأعلنت الحكومة المصرية برئاسة على ماهر الأحكام العرفية، وتوافد الناس على البنوك لسحب أموالهم، وكانت المفاجأة أن بنك مصر الذى يعد عملاقا مصرفيا كبيرا غير قادر على تلبية طلبات عملائه، فاضطر إلى أن يقترض مليونين ونصف المليون جنيه من البنك الأهلى بضمان الحكومة المصرية، ومع اهتزاز الثقة فى البنك اضطر رئيسه ورمزه ومؤسسه طلعت حرب باشا لتقديم استقالته إلى مجلس الإدارة فى 14 سبتمبر، مثل هذا اليوم، 1939، حسبما تذكر مجلة «أيام مصرية» برئاسة تحرير «أحمد كمالى» فى عددها (55، 2016)، وتناولت فيه قصة «الأيام الأخيرة لطلعت باشا حرب فى بنك مصر».
خرج طلعت حرب باستقالته من مشهد تصدره طوال 20 عاما بدأ بدعوته لتأسيس البنك يوم 7 مايو 1920، ولبى 126 مصريا واكتتبوا مبلغ ثمانين ألف جنيه، كانت النواة الأولى فى مشروعه الاقتصادى، الذى يشار إليه كواحد من المحاولات الرائدة لاستقلال الاقتصاد المصرى، وحسب الكاتب المفكر فتحى رضوان فى كتابه «طلعت حرب- بحث فى العظمة»، فإن أسبابا عامة وخاصة أدت إلى نجاح فكرة طلعت حرب، وعن الأسباب العامة يقول: «فطرته هدته إلى أن ثورة 1919 هيأت النجاح لفكرته العزيزة»، وعن الأسباب الخاصة يشير «رضوان» إلى ذكاء طلعت حرب الشخصى فى القيادة، وبدا ذلك فى: «أنه لم يصدر منه قط ما يغضب حزبا ولا هيئة ولا طائفة، ولا عصبية ما من العصبيات ذات النفوذ، وضم مجلس إدارة البنك كبار الرجال من المسلمين والمسيحيين واليهود، وحرص على تمثيل العائلات ذات الماضى التجارى، كما حرص على أن يكون على رأس المجلس رجل على صلة بالسراى الملكية، وبلا لون ولا نشاط، ولا موهبة ليكون حلية حقيقية».
وبهذه الصفات بقى بنك مصر فريدا فى تاريخ النشاط الاقتصادى والاجتماعى بمصر بتأسيسه لعشرات الشركات فى الأنشطة الاقتصادية المختلفة من التصنيع إلى التجارة، وبتقدير فتحى رضوان، فإن هذا السجل الاقتصادى الحافل رفع طلعت حرب إلى مرتبة مؤسسى الدول، وأصبح اسمه مقرونا «بأول بنك مصرى يقوم على أكتاف الشعب نفسه، بلا معونة من الحكومة، ولا إشراف، ولا توجيه، بل ولا حتى مجرد العطف على الفكرة»، لكن البنك تضرر من الأزمات الاقتصادية التى أحدثتها الحرب العالمة الثانية فاستقال طلعت حرب، وحسب الكاتب أحمد كمالى فى «أيأم مصرية»، فإن السؤال الأهم الذى يحتاج لإجابة واضحة حول الظروف الحقيقية التى خرج على أثرها طلعت حرب من بنك مصر عام 1939، وهو تساؤل يمثل إشكالية تاريخية فى تاريخ الرجل، لأننا أمام روايتين تاريخيتين يناقض كل منهما الآخر.
الرواية الأولى لشاهد معاصر للحدث وهو حافظ عفيفى باشا، وأدلى بها فى حديث للراديو عام 1941 ونشرته الصحف، وألقى فيه بالمسؤولية على رجل بنك مصر الأول طلعت حرب، مؤكدا، أنه عندما نشبت الحرب تهافت أصحاب الودائع خاصة عملاء صندوق التوفير على سحب ما يربو على مليونين ونصف مليون جنيه، فاضطر البنك أن يستدين من البنك الأهلى، وبحثت الحكومة أسباب هذه الأزمة، فتبين لها أن السبب الرئيسى هو عدم تمسك البنك بالأصول المصرفية المرعية التى تقضى بالاحتفاظ بنسبة معينة من ودائعه كأموال حاضرة تحت طلب عملائه، والسبب فى هذا الانحراف أن مؤسسى البنك رأوا أن يجعلوه المنبع المالى لتأسيس صناعات مصرية، ولم ينبعث صوت مسموع يدعو القائمين على البنك إلى التمهل فى خطواتهم السريعة.
كما يضيف حافظ عفيفى أن الأبحاث دلت على أن كثيرا من العمليات المصرفية للبنك لم تستند إلى ضمانات كافية، وأن عددا كبيرا من مدينيه لم يفوا بتعهداتهم، وبعض هؤلاء وأغلبهم شخصيات محترمون حرصوا على وفاء ما عليهم من ديون للبنوك الأخرى، ولم يبذلوا أى جهد فى وفاء ما عليهم لبنك مصر، الذى كان يعامل هؤلاء المدينين دائما معاملة رفق ولين، بل تجاوزت فى كثير من الأحيان حدود الرفق واللين.
لكن فتحى رضوان يرفض إلقاء اللائمة على طلعت حرب، ويرى أن خروجه من البنك كان نتيجة مؤامرة ونية مبيتة اشتركت فيها الحكومة عن طريق وزير ماليتها «حسين سرى باشا»، ويضيف: «نحى طلعت حرب، وبدأ الطعن فيه وفى إدارته، وفى أسلوب عمله، وقبل تنحيته ذهب إلى وزير المالية حسين سرى باشا يطلب من الحكومة أن تقف مع البنك، فقال الوزير: يا طلعت باشا إدارتك للبنك سيئة، فرد على الفور: كنت أعطيك بيدى هذه كخبير لشركة المحلة ستمائة جنيه كل سنة، فكيف تكون اليد التى تقبل منها هذا المال، يد لا تحسن الإدارة»، يضيف رضوان ساخرا: «كان أكبر ما نسب إليه أنه حبس أموال البنك السائلة التى كانت يجب أن فى متناول عملاء البنك يسحبون منها متى شاءوا، حبسها فى شركات صناعية أنشأها البنك».

Trending Plus