التجنيد الإجبارى يعود لأوروبا.. ألمانيا تستعد لاستنساخ النموذج السويدى.. وبولندا تستثمر فى التعليم الدفاعى بالمدارس.. واستراتيجيات لفرنسا والدنمارك لمواجهة تهديدات روسيا وحماية الأمن القومى وسط تحديات الناتو

يشهد المشهد الأوروبي، عودة قوية للنقاش حول التجنيد الإجباري كأحد الأدوات الرئيسية لتعزيز جاهزية الجيوش الوطنية، في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية وتنامي التهديدات الأمنية، خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، لضمان وجود قوات احتياط واسعة قادرة على التدخل السريع، وبينما تخلت أغلب الدول الأوروبية عن الخدمة العسكرية الإلزامية خلال العقود الماضية، فإن التطورات الأخيرة تدفع الحكومات إلى إعادة النظر في هذه السياسات، بل وتبني نماذج تجمع بين التطوع والإلزام، وتوسيع برامج الاحتياط والتدريب الدفاعي.
ألمانيا تتوجه نحو خدمة عسكرية جديدة بين التطوع والإلزام
بعد أن أوقفت ألمانيا التجنيد الإجباري عام 2011، عادت برلين لتطرح مشروعاً جديداً يجمع بين الخدمة الطوعية والاستدعاء الإجباري، مستلهمة التجربة السويدية، ووفق الخطة الألمانية، سيبدأ العمل بالنظام الجديد اعتباراً من يوليو 2027، حيث سيتم استدعاء جميع الرجال من مواليد عام محدد لفحص التجنيد، بينما يترك للنساء خيار التطوع.
وسيحصل المجندون على صفة جندي مؤقت، ما يمنحهم وضعاً مالياً أفضل ومكافآت إضافية لجعل الخدمة العسكرية أكثر جذباً، وإذا واجهت البلاد تهديدات مباشرة أو كان الإقبال على التطوع ضعيفاً، يمكن للحكومة الاتحادية فرض التجنيد الإجباري عبر مرسوم قانوني بموافقة البرلمان.
وبعد انتهاء الخدمة، يبقى الشباب مرتبطين بالجيش عبر منظومة الاحتياط، ما يسهم في سد النقص العددي وتحقيق أهداف الناتو.
فرنسا تطلق برنامج الخدمة الوطنية العالمية
أما فرنسا فقد ألغت التجنيد الإجباري عام 1996، لكنها عادت عام 2019 لتطلق برنامج "الخدمة الوطنية العالمية"، المخصص للشباب بين 15 و17 عاماً، ويستمر لشهر واحد فقط بمزيج من التدريبات العسكرية والأنشطة المدنية والاجتماعية.
ورغم حديث الرئيس إيمانويل ماكرون عام 2018 عن إمكانية فرض خدمة إلزامية عامة، بقي البرنامج طوعياً بسبب تحديات التمويل وضعف الدعم السياسي، وبدلاً من ذلك، تركز باريس على تعزيز الاحتياط، إذ تسعى لرفع العدد من 40 ألفاً إلى 80 ألفاً، مع الاعتماد على الجيش المهني كقوة رئيسية قابلة للتوسع السريع.
بريطانيا تعتمد على امتهان الجيش منذ عام 1960
ومنذ عام 1960، تعتمد بريطانيا على جيشها المهني دون أي شكل من أشكال التجنيد الإجباري، لكن التحدي الأكبر يكمن في النقص المزمن في أعداد المجندين الجدد، وهو ما يدفع المحللين العسكريين إلى التحذير من التفكير في العودة إلى الإلزام، باعتباره خياراً غير عملي، لذلك، تركز لندن على توسيع قوات الاحتياط كحل واقعي للتعامل مع التهديدات الأمنية المتزايدة.
بولندا تستثمر في التعليم الدفاعى بالمدارس
من ناحية أخرى، ألغت بولندا التجنيد الإجباري عام 2008، ولكنها تعتبر اليوم من أكثر الدول الأوروبية استعداداً للتسلح بعد الحرب الأوكرانية، وتخطط وارسو لرفع عدد قواتها إلى300 ألف جندي بحلول 2035، إضافة إلى 50 ألفاً من قوات الدفاع الإقليمي.
وإلى جانب قوات الاحتياط، تستثمر بولندا في التعليم الدفاعي بالمدارس، حيث يتلقى الشباب تدريبات عسكرية مبكرة تشمل الرماية والانضباط، وتعد هذه السياسة أداة مزدوجة للتربية الوطنية ولإعداد جيل جديد من المجندين.
السويد تجنيد اجبارى نسبى وعودة الخدمة المدنية
وألغت السويد التجنيد عام 2010، لكنها أعادت فرضه عام 2017، و كل البالغين 18 عاماً يسجلون بياناتهم إلكترونياً، ويتم اختيار نسبة تتراوح بين 5 و10% فقط للتجنيد الإجباري، سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً.
ومنذ 2023، أعيد أيضاً فرض الخدمة المدنية الإجبارية، بحيث يمكن لمن لا يلتحق بالجيش أن يخدم في قطاعات الإسعاف أو الطوارئ أو مواجهة الكوارث، وهو ما يجعل النظام السويدي مرناً وقابلاً للتكيف.
التجنيد في فنلندا جزء من الهوية الوطنية
أما فنلندا لم تتخل يوماً عن التجنيد الإجباري، جميع الرجال فوق 18 عاماً ملزمون بالخدمة لمدة تتراوح بين 6 و12 شهراً، فيما يمكن للنساء التطوع.
ما يميز التجربة الفنلندية هو أن ثلثي الشباب المطلوبين يؤدون الخدمة فعلياً، ما يجعلها جزءاً راسخاً من الهوية الوطنية. وبعدد سكان لا يتجاوز 5.5 مليون نسمة، تمتلك فنلندا في حالات الطوارئ أكثر من 250 ألف جندي جاهزين، بفضل استدعاءات منتظمة للتدريب.
وفي النرويج، يخضع الرجال والنساء معاً لفحوص الخدمة منذ 2016، لكن يتم اختيار نسبة محدودة فقط، ما يجعل الخدمة العسكرية محل تقدير اجتماعي، أما الدنمارك، فستبدأ اعتباراً من 2026 بتطبيق التجنيد على النساء أيضاً، مع تمديد مدة الخدمة الأساسية من 4 إلى 11 شهراً، وفي النمسا، لا يزال التجنيد سارياً، حيث يؤدي الشباب 6 أشهر خدمة عسكرية أو 9 أشهر خدمة مدنية، وسط جدل سياسي لم يُنهِ إلزاميته بسبب الظروف الجيوسياسية.
وبالنظر إلى دول البلطيق وأوكرانيا واليونان وتركيا، فإن لاتفيا أعادت التجنيد عام 2023، مع إلزام الرجال 18-27 عاماً بالخدمة لـ11 شهراً، وليتوانيا أعادت التجنيد عام 2015، وتستدعي سنوياً نحو 3500 رجل، وأوكرانيا فرضت التجنيد منذ 2014، وأصبح بعد الغزو الروسي يشمل جميع الرجال بين 18 و60 عاماً، أما االيونان فتحافظ على خدمة إلزامية لمدة 12 شهراً، مع بديل مدني أطول لمن يرفض، أما تركيا، فتعتمد نظام "بدل الخدمة" الذي يسمح للمجندين بدفع مبلغ مالي يقارب 6500 يورو حاليا بعد شهر من التدريب الأساسي لتجنب بقية فترة الخدمة.
وتظهر التجارب الأوروبية أن التجنيد الإجباري لم يعد خياراً مستبعداً، بل عاد ليصبح جزءاً من النقاش الاستراتيجي حول مستقبل الدفاع والأمن، وبينما تحاول بعض الدول الجمع بين التطوع والإلزام، تركز أخرى على بناء قوات احتياط قوية أو دمج التعليم الدفاعي في المدارس.

Trending Plus