جسور المحبة بين الوطن والمهجر.. الكنيسة القبطية تشكل وحدة دينية عبر القارات.. وارتفاع عدد الكنائس بالخارج لتكوين شبكة روحية عالمية.. والبابا تواضروس: 600 أسقف وكاهن وراهب و10 أديرة ناشئة

في ظل عالم يتغير بوتيرة سريعة ويشهد هجرات واسعة النطاق، تبرز الكنيسة القبطية الأرثوذكسية كنموذج فريد للثبات والاتساع، محافظة على هويتها الروحية العريقة، ومؤسسة وجودًا قويًا في المهجر، يعكس رسالتها في الحفاظ على وحدة أبنائها ودعمهم الروحي والاجتماعي.
وتتميز الكنيسة القبطية بحافظاتها الصلب على التراث الكنسى، وتقاليدها الاجتماعية والروحية، واهتمامها بأن تظل دعائم إيمانها المسيحى راسخة باتصال لا ينقطع مع طابعها المصرى الأصيل؛ لذا تهتم برعاية أبنائها فى أنحاء العام، ولا تهملهم أو تتركهم يذوبون تماما فى مجتمعاتهم الجديدة؛ إنما تعمل على أن يكونوا فاعلين فى بيئاتهم دون أن ينفصلوا عن وطنهم الأم، وهكذا تنشيط بكل قوّتها فى الخدمة بالخارج، ولا تتوقف عن أنشطة الرعاية والخدمة فى كل شبر يصله المصريون.
من سبع كنائس إلى مئات: رحلة توسع بدأت بالرؤية
عندما تولى قداسة البابا شنودة الثالث قيادة الكنيسة في سبعينيات القرن العشرين، لم تكن الكنيسة القبطية خارج مصر تمتلك سوى سبع كنائس، موزعة على دول مثل الولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا، وإنجلترا. هذا الرقم كان بمثابة نقطة الانطلاق لرؤية طويلة المدى، تمثلت في إيصال صوت الكنيسة إلى كل مكان يتواجد فيه أقباط المهجر.
ومع تزايد موجات الهجرة خلال العقود الماضية، أدركت الكنيسة مبكرًا أهمية تقديم الرعاية الروحية لأبنائها في الخارج، مما قاد إلى توسع مذهل في عدد الكنائس والمؤسسات القبطية حول العالم.
بنية تحتية روحية متكاملة: كنائس، أديرة، ومعاهد لاهوتية
اليوم، تجاوز عدد الكنائس القبطية في المهجر أكثر من 150 كنيسة، منها 63 كنيسة في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها. وترافق هذا النمو العددي مع بناء مؤسسات لاهوتية وتعليمية وروحية تهدف إلى ترسيخ الهوية القبطية، وتدريب الكهنة والخدام.
فعلى سبيل المثال، شهدت ولاية كاليفورنيا تأسيس دير قبطي، إلى جانب معهدين لاهوتيين، ما يعكس التزام الكنيسة ببناء قاعدة روحية متينة، تستوعب أبناء الأجيال الجديدة وتعد قادة المستقبل.
كما تم تعيين أساقفة متخصصين في شؤون كل قارة، لضمان إدارة دقيقة وفعالة للأبرشيات القبطية في الخارج، وتسهيل عملية التواصل مع الكنيسة الأم في مصر.
وذكر قداسة البابا تواضروس الثانى، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، خلال لقاء صحفى سابق مع محررى الملف القبطى، أن الكنيسة الأرثوذكسية لديها كنائس فى أفريقيا وأوروبا وآسيا، وكنيسة فى أورشليم، وتحضر بقوة أيضا فى أستراليا والولايات المتحدة وكندا والمكسيك وأمريكا اللاتينية، وترعى أقباطا هاجروا قبل 120 سنة، لافتا إلى أن فريق الخدمة بالخارج يضم 600 أسقف وكاهن وراهب، وهناك 10 أديرة ناشئة، وغيرها مضت على تأسيسها سنوات طويلة.
وأضاف البابا، أن الكنيسة اهتمت بالوجود فى الخارج لرعاية أبنائها، وحتى حتى لا يذوبوا فى المجتمع الغربى مُبتعدين عن التقاليد الروحية والاجتماعية الأصيلة. موضحا أن العمل مع المغتربين أكبر خدمة قدمتها الكنيسة القبطية لأولادها المنتشرين بالعالم، لا سيما أنها تُحافظ على الروح التى اعتادوها وتربطهم بالوطن رباطا وثيقا، فلا تختلف أجواء أية كنيسة فى المهجر عن نظيرتها فى شبرا أو غيرها من مناطق مصر، سواء فى الأجواء اليومية أو فى الصلوات والطقوس والألحان، ونعتبر أننا سفارات شعبية لمصر، ولا نبتعد عن السفارات الرسمية، فمنذ عهد البابا شنودة عندما ننظم أية زيارة خارجية نزور سفارات مصر ونجتمع بمسؤوليها من المسلمين والمسيحيين.
مكتب HIGH: جسور محبة بين الوطن والمهجر
ضمن جهود تنظيم العلاقة بين الكنيسة في الداخل والخارج، أُسس مكتب HIGH (Hands in God’s Hand) داخل البطريركية في القاهرة، ليكون بمثابة منصة تنسيقية بين أقباط المهجر واحتياجات الخدمة في مصر.
يتكون المكتب من فرق خدام وكهنة موزعين بحسب القارات، ويتولى مهام تنسيق برامج الخدمة وتبادل الخبرات وتنظيم الزيارات الرعوية والمساهمات الاجتماعية، مما يعزز التواصل والتكامل بين الكنائس القبطية عالميًا.
الثقافة القبطية تتحدث كل اللغات
لم تتوقف رسالة الكنيسة عند الجانب الروحي فقط، بل امتدت إلى العمل الثقافي والاجتماعي، حيث أُنشئت مراكز ثقافية قبطية ضخمة، من بينها المركز القبطي في تورنتو بكندا، الذي يعد من أكبر المراكز القبطية في العالم، ويقدم برامج ثقافية وترفيهية وتعليمية للأطفال والشباب.
كما أُسست مدارس قبطية في عواصم ومدن رئيسية لتوفير تعليم يعزز الهوية، ويربط الأجيال الجديدة بجذورهم، ويواجه تحدي الذوبان الثقافي في مجتمعات المهجر.
تحديات الحاضر ورؤية المستقبل
رغم النجاحات الكبيرة، تواجه الكنيسة تحديات متنوعة، من بينها التعدد الثقافي واللغوي، وتفاوت درجات الانتماء الكنسي لدى الأجيال الجديدة. لذلك، تعمل الكنيسة على تطوير أدوات التواصل، وتقديم المحتوى الديني والتربوي بلغات مختلفة، مع التركيز على استخدام المنصات الرقمية ووسائل التواصل الحديثة.
كما تضع الكنيسة في أولوياتها تعزيز روح المواطنة والاندماج الإيجابي في مجتمعات المهجر، ضمن إطار يحافظ على الهوية القبطية دون الانغلاق.
ويعتبر توسع الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في الخارج لم يكن مجرد رد فعل للهجرة، بل كان تعبيرًا حيًا عن رسالة روحية متجذرة في الإيمان والهوية. من خلال بناء الكنائس والمعاهد والمراكز، وتنظيم الخدمة، وتعزيز التواصل بين الداخل والخارج، تقدم الكنيسة نموذجًا يحتذى به في رعاية أبنائها عبر القارات، دون أن تفقد بوصلتها المصرية الأصيلة.

Trending Plus