علا الشافعى تكتب: القتل الصامت.. غزة «عار العالم»

هنا تاريخ من الصمود والعار معا.. المكان جنوب فلسطين على ساحل المتوسط، الزمان 700 يوم وليلة من القتل والتجويع، والعنوان: غزة.. ذلك القطاع الذى ضرب أهله مثلاً فى الفداء، وشكّل الذين غضّوا الطرف عن مأساته أسوأ أمثلة الخزى، ومن وسط ركامه نال بنيامين نتنياهو وعن جدارة لقب: سفاح القرن الحادى والعشرين.
700 يوم وليلة مرّت على مجزرة ممتدة دون توقف طالت نحو 2.1 مليون إنسان، بينهم مليونا طفل يعيشون على وجبة واحدة أو أقل فى اليوم، وبينهم، بحسب تقارير أممية، أكثر من 80% على حافة الجوع والموت البطىء.
آلاء، ميسون، رهف، بشرى، محمد، على، أطفال رضع، شباب، وشيوخ… وعبدالله الذى استفاق العالم على صرخته: «أنا جوعان». طفل يقرصه الجوع ولا يملك إلا الصراخ، اعتقدنا للحظة أن صرخته «أنا جوعان» ستوقظ ضمير العالم، ولكن ماذا يفعل الصوت الضعيف فى ضمير مات منذ سبعمائة يوم؟
وخلف صرخة عبدالله، هناك أكثر من 65 ألف شهيد ارتقوا منذ بدء العدوان، بينهم ما يزيد على 17 ألف طفل، فضلًا عن أكثر من 150 ألف جريح، كثير منهم بلا دواء أو علاج، هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات، بل وجوه وأحلام وأجساد أنهكها الجوع والقصف، وأرواح خرجت من بين الركام لتشهد على سقوط الضمير العالمى.
لم يتبق شىء…
سقطت البشرية فى غزة وسقطت معها كل الأقنعة، لا أعرف كيف نواصل حياتنا بشكل عادى وطبيعى أمام صور الأطفال الذين التهمهم الجوع حتى الموت، كيف ننظر إلى أنفسنا أمام صورة المسن الذى يكشف جسده للعالم لنرى جلداً فوق عظم، كيف اعتدنا الجرم لهذه الدرجة حتى أصبحت المذابح أمرا عاديا يمر أمامنا ونحن نأكل ونشرب أو نجلس فى راحة على كنبة؟ كيف لى أن أواجه الله؟ ماذا سأقول له؟ هل قمنا بواجبنا؟ هل فعلنا أقصى ما نستطيع؟ هل صلوات المسلمين فى المساجد ودعواتهم – إن تذكّروا – تمحو الذنب؟
غزة اليوم هى عار الإنسانية ونكبتها الكبرى، أرض اختلطت فيها دماء الشهداء ولحمهم وعظمهم حتى باتت جزءاً من جغرافيتها، فهل يتخيل الصهاينة وجيش الاحتلال النازى أن ذلك سيمر؟ بعيداً عن العار والخذلان، ستظل هذه الأرض أبية على الغزاة، وستنبت من بطنها مقاومين جدداً بغض النظر عن المسميات، فمنذ عام 1948، منذ النكبة الأولى، وهذه الأرض تئن من الأوجاع لكنها تمور دائماً لتلد من يصرخ فى وجه الاحتلال: «لن تمروا».
الحروب السابقة على غزة كانت دامية، لكنها لم تبلغ حجم الجحيم الحالى، فى 2008، 2012، 2014، و2021 شهد العالم مجازر، لكنه اليوم يرى مجاعة متعمدة، يرى سكانا محاصرين يموتون ببطء، يرى الأدوية تُمنع والمستشفيات تُقصف والمرضى يختنقون على أسرتهم، واليوم، إسرائيل باتت تسيطر على أكثر من نصف القطاع، تقارب 60% من أراضيه، وتواصل حصار ما تبقى لابتلاع غزة قطعة قطعة، روحا وأرضا.
المنظمات الأممية انهارت، القانون الدولى سقط، العدالة الإنسانية انكسرت أمام جدار الصمت الدولى، لا تدخل فعلياً لإنقاذ مئات الآلاف من الجوعى والمرضى، لا مبادرات تحمى المدنيين أو توقف النزيف. البيانات والنداءات لم تعد سوى أوراق تذروها الرياح فوق مقابر غزة.
وسط كل هذا، تظل مصر واقفة فى قلب العاصفة، متمسكة بحل سياسى رغم الاستفزازات ومحاولات فرض أمر واقع جديد يمحو رفح ويقضم الأرض، تدرك القاهرة أن غزة ليست مجرد ملف، بل قضية أمن قومى وإنسانى وأخلاقى، تحاول مصر أن تبقى شريان الحياة مفتوحاً رغم الضغوط، لكنها وحدها لن تستطيع إنقاذ مدينة تحترق بينما العالم يتفرج.
وماذا لو احتل نتنياهو مدينة غزة بالكامل؟ هذا السيناريو أشبه بيوم القيامة على الأرض: تهجير قسرى لمن تبقى من السكان، تحويل المدينة إلى ثكنة عسكرية، وربما بداية خطة لدفع مئات الآلاف نحو رفح أو البحر، ستندلع موجات مقاومة جديدة، أكثر شراسة وأكثر يأساً، لأن من يعيش بلا أمل لم يعد لديه ما يخسره.
قد يتوسع نتنياهو ووزراؤه النازيون فى الجغرافيا، وقد يلتهم الأرض قطعة قطعة، ولكنه فى المقابل سيسجَّل فى التاريخ كمجرم حرب، وسيسبق اسمه لقب نازى القرن الحادى والعشرين، وبسببه أيضاً سيسجل التاريخ أن إسرائيل خسرت أسطورتها المتوارثة: «الدولة المستكينة الديمقراطية الوحيدة فى الشرق الأوسط»، الدولة التى كانت تزعم أنها مهددة بالالتهام من «البرابرة العرب الوحشيين». لكن بسبب القتل والإبادة والتجويع، أصبحت هناك أجيال شابة وأطفال يعرفون اسم فلسطين ويهتفون به، وارتفعت الأعلام الفلسطينية فى كل القارات، ومن بين «إنجازاته» أيضاً – ووفقاً لدراسة أجرتها جامعة هارفارد – أن 60% من الشباب الأمريكى بات يفضل حركة حماس على إسرائيل، ويا له من «إنجاز» سيدفع ثمنه الشباب الإسرائيلى الذين سيتحولون إلى أناس غير مرغوب فى وجودهم، وهو ما بدأنا نشهده بالفعل فى طرد السياح الإسرائيليين من إسبانيا وهولندا واليونان وغيرها من الدول.
غزة ليست مأساة عابرة، بل لحظة سقوط كبرى للعالم، بعد جحيم غزة، لن يبقى شىء على حاله، ستظل صور وصرخات الجوعى والمجازر تطارد الضمير الإنسانى، وستبقى الأرض التى صمتت طويلاً تمور لتخرج من بطنها مقاومين جدداً يكتبون فصلاً آخر من تاريخها الطويل مع الألم والمقاومة.. حتى إشعار آخر.
اقرأ أيضا..

p

Trending Plus