حسين السيد يكتب: الجاحظ كما يراه بديع الزمان

لبديع الزمان أحمد بن الحسين أبى الفضل الهمذانى مقامة تسمى "الجاحظية" نسبة إلى إمام الأدب والبيان أبى عثمان عمرو بن بحر المعروف بالجاحظ، ونراه يتحامل عليه وينتقص من قدره، فبعد حشو الزائد من المقامة نجد أنه يغض من شأن الجاحظ وينتقده ويعيبه، فيقول:

"إن الجاحظ فى أحد شقى البلاغة يقطف، وفى الآخر يقف، والبليغ من لم يقصِّر نظمه عن نثره، فهل ترون للجاحظ شعرا رائعا؟ قلنا لا. قال: فهلموا إلى كلامه فهو بعيد الإشارات، قليل الاستعارات، قريب العبارات. منقاد لعريان الكلام يستعمله، نفور من معتاصه يهمله، فهل سمعتم له لفظة مصنوعة، أو كلمة غير مسموعة؟ قلنا: لا".

فهو يأخذ على الجاحظ أنه بارع فى النثر ضعيف فى الشعر، وأن شعره إن وجد لا يضاهى بالمرة نثره، والبليغ فى عرفه من أجاد فى الاثنين، وجمع بينهما، أما أن تكون شاعرا فقط فأنت لست ببليغ، وهذا كلام متهافت من السهل الرد عليه بأن ابن المقفع مثلا وكذلك عبدالحميد بن يحيى الكاتب قد برعا فى النثر، وجرير والفرزدق برعا فى الشعر، فهل يعنى هذا أنهم ليسوا بلغاء، وبهذا المعيار فإن العقاد الذى أجاد فى الشعر والنثر هو من يستحق أن يكون بليغًا، أما طه حسين فليس بلغيا لكونه قد تميز فى النثر عن الشعر.

وبعد أن ينتهى من هذه المسلَّمة وهى أن الجاحظ ليس شاعرا فحلا، ينتقد مزية الجاحظ الأخرى المعروف بها، وهى الرسوخ فى النثر، فيقلل من نثره هذا أيضا، ويصفه بأنه "بعيد الإشارات، قليل الاستعارات، قريب العبارات..." كما ينتقده كذلك فى بعد إشاراته عن الأذهان، وعدم استخدامه لما يقربها من التشبيه والاستعارة.

وهنا كفانا الإمام محمد عبده فى شرحه لمقامات الهمذانى، وهو أفضل شرح يمكن الاعتماد عليه والوثوق به، مئونة الرد على البديع، فقال: "وهذه الأوصاف التى يعدها كأنها من مناقص كلام الجاحظ، هى أعلى مزايا الكلام عند أهله، وهى التى ترفع مقامه على غيره. وهذا المذهب الذى سلكه الجاحظ هو مذهب رجال البلاغة الأولين، ومجال فرسانها السابقين. أما المصنوعات، فهى من أحداث الموضوعات، لا ينظر إليها إلا صبية هذه الصناعة".

أرى أن البديع يرى أن نثر الجاحظ قريب متداول يستطيع أى قارئ أن يستوعبه ويفهمه، وأنه يخلو من الاستعارة والتشبيه والخيال والرمز، وأنه منقاد لعريان الكلام أى يفضل الكلام الواضح الظاهر الذى ليس به التواء أو غموض، فمن وضوحه أنه يشبه العريان الذى لا يرتدى ملابس. ونفور من معتاص الكلام، أى يبعد ويتجنب الكلام العويص وهو الكلام الذى يصعب فهمه، فالجاحظ يبعد عن الكلام الغامض، وهذا ما أخذه عليه بديع الزمان، وقد رد عليه الإمام محمد عبده بما فيه الكفاية.

وبديع الزمان طبق على نفسه ما عدَّه عيبًا على الجاحظ، فهو يقرض الشعر ويكتب النثر، وبارع فيهما، وتلاحظ ذلك فى مقاماته، فتجد الشعر مبثوثا فى ثناياها، ففى المقامة "الجاحظية" أنهاها بعدة أبيات من الشعر، وتجده بكثرة فى المقامات "الوعظية"، و"المكفوفية"، و"الساسانية"، وغيرها من المقامات.

ومن شدة تأثر بديع الزمان بالجاحظ أنشأ المقامة "العلمية"، وفيها يصف العلم وصعوبة إدراكه، وهى معارضة للجاحظ فى وصفه للكتاب كما يذهب "مارون عبود" فى كتابه عن بديع الزمان، فهات الجزء الأول من "الحيوان" للجاحظ، وانظر فى الصفحة الثامنة والثلاثين وما بعدها، وقارن هذا بما جاء فى مقامة البديع "العلمية".

حسين السيد

يقول الجاحظ، مبينا فضل الكتاب:"الكتاب وعاء مُلِئ علما، وظَرف حُشِى ظرفا، وإناء شُحن مزاحا وجدًّا؛ وإن شئت كان أبلغ من سحبان وائل، وإن شئت كان أعيا من باقل، وإن شئت ضحكت من نوادره، وإن شئت عجبت من غرائبه، وإن شئت ألهتك مضاحكه، وإن شئت أشجتك مواعظه، ومن لك بواعظ مُلْهٍ، وبزاجر مُغرٍ، وبناسك فاتك، وبناطق أخرس، وببارد حار". ويطول المقام لو ذكرت فضل الكتاب كما بينه الجاحظ أديب العربية الأكبر. أما عند البديع فيتحدث عن الصعوبات التى يواجهها المتعلم فى تحصيل العلم، فيقول:"بم أدركت العلم؟ قال: طلبته فوجدته بعيد المرام، لا يُصطاد بالسهام، ولا يُقْسَم بالأزلام، ولا يُرى فى المنام، ولا يُورث عن الأعمام، ولا يُستعار من الكرام".

ويمكن الاستئناس هنا بأبيات لجار الله الزمخشرى المعتزلى "صاحب الكشاف" و"أساس البلاغة"، وقد ذكر أحمد أمين فى كتابه "ظهر الإسلام" الجزء الرابع، ص 52:

سهرى لتنقيح العلوم ألذُّ لى من وصل غانيةٍ وطيب عناق

وتمايلى طربًا لحل عويصةٍ أشهى وأحلى من مدامة ساقى

وصرير أقلامى على أوراقها أحلى من الدوكاء والعشاق

وألذُّ من نقر الفتاة لدفها نقرى لأنفى الرمل عن أوراقى

أأبيت سهران الدجى وتبيتُه نوما وتبغى بعد ذاك لحاقى

انظر إلى البيت الأخير، فيه كل الخلاصة، هل يتساوى الذى يسهر الليل فى المذاكرة وتحصيل العلم مع الذى ينام طوال الليل؟ هل يتساوى الاثنان فى الدرجات؟ كلا، كل واحد يأخذ على قدر اجتهاده وتعبه وسهره، "قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون".

كما أن هناك مقامة تعرض فيها بديع الزمان بالجاحظ ولو من بعيد وهى "المارستانية"، وهى تعنى المستشفى الذى يعالج أمراض الجنون، تعرض فيها البديع للمعتزلة، وفيها شنع عليهم عن طريق مجنون؛ إذ يحكى فيها أنه دخل بصحبة أبى داود العسكرى مارستان البصرة، ولقيهم مجنون، فراح المجنون يكيل السباب للمعتزلة، ولا أدرى كيف لمجنون أن يخوض فى غمار علم الكلام! وسنتعرض لها بإذن الله عند الحديث عن نكبة المعتزلة.

وفى النهاية نقول إن بديع الزمان عاش أربعين سنة هجرية فقط، فهو مولود سنة 358 هـ وتوفى 398هـ، ورغم هذا العمر القصير فإنه آية من آيات الدهر، وانظر إلى ما كتبه الثعالبى عنه فقد كان صاحب عجائب وبدائع وغرائب، فمنها أنه كان ينشد القصيدة التى لم يسمعها قط وهى أكثر من خمسين بيتا فيحفظها كلها ويؤديها من أولها إلى آخرها لا يخرم حرفا ولا يخل بمعنى وينظر فى الأربعة والخمسة أوراق من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة خفيفة، ثم يهذها عن ظهر قلبه هذا ويسردها سردا، وهذه حاله فى الكتب الواردة عليه وغيرها.

يمكن الرجوع إلى يتيمة الدهر للثعالبى الجزء الرابع، ومقالات عبدالوهاب عزام فى مجلة الرسالة لسنة 1934، ومقامات البديع شرح الإمام محمد عبده، وظهر الإسلام لأحمد أمين الجزء الرابع، وبديع الزمان لمارون عبود..