ياسمين عبده تكتب: قلب على دكة الاحتياط

لم يعد السؤال: من الحبيب؟ بل: من الأساسي… ومن الاحتياطي؟ في زمنٍ امتلأت فيه القلوب بإشعارات أكثر من الامتنان، أصبح كثيرون ـ نساءً ورجالًا ـ يديرون مشاعرهم بمنطق "خطة ب". كأن القلب فريق كرة، له هداف أساسي، وعلى المقعد ظل ينتظر صافرة التغيير. لماذا وصلنا إلى هنا؟
لأن الخسارة صعبة. ولأن الفراغ العاطفي بعد التعلق موجع.
ولأن تجربة الانهيار الأولى تجعل البعض يتعلم الوقاية بطريقة خاطئة: قلب في العلاقة… وقلب على الهامش.
هذه الظاهرة لا تخص "البنات" وحدهن، لكنها في محيط البنات أوضح أحيانًا لأسباب متشابكة: حساسية وجدانية أعلى بعد صدمات متكررة، خوف مشروع من تضييع السنوات، وضغط مجتمع يطالب بالحب والزواج معًا ثم يتركك وحدك حين تتعثرين. فنعم، قد تلجأ بعض الفتيات إلى "خطة بديلة" كي لا يسقطن في فراغ ما بعد الفشل. لكن، وهنا التحذير، البديل ليس علاجًا، بل مسكنًا يطيل المرض.
هناك أيضًا رغبة انتقامية تتخفى في صورة حماية ذات.
حين تكسَر فتاة، قد تغريها فكرة أن تلوح بعلاقةٍ جديدة لرد الألم. لحظة انتصار سريعة، تجر خلفها دائرة جراحٍ أكبر. لأن الانتقام لا يداوي الكسر؛ فقط يوزع الألم على قلوب أكثر.
وتوجد أسطورة أخرى تصنعها الشاشات: صورة "الفتى اللامع" الذي يبدو كأنه كل شيء كاريزما، حضور، وعود كبيرة، لكنه لا يعطي أمانًا. فتقع بعض الفتيات في فخ معادلة قاسية: قلب مع اللامع الذي لا يكتمل، وخيط رفيع مع الهادئ الآمن "للاحتياط". هكذا يتلوث معنى الأمان نفسه: بدل أن يكون اختيارًا حرًّا ناضجًا، يتحول إلى شبكةٍ تفرش فقط إذا سقطتِ.
ومع سيل التطبيقات، صار الوهم رخيصًا.
توفر المنصات تعاقبًا لا نهائيًا من الوجوه والفرص، فيتسلل إلى الوعي شعور بأن الاستبدال دائمًا ممكن. تتراخى الحدود. تتساهل الضمائر. تتوازي علاقات لا تعلن ولا تحسم. وبدل "قلبٍ واحد" يصبح لدينا "قائمة انتظار".
كل هذا له ثمن إنساني باهظ:
يختلط الصدق باللعب.
تتصدع ثقة من يستحقون الثقة.
وتتحول القلوب نفسها إلى "داتا" تدار بلغة الاحتمالات لا لغة العهود.
المهنية تقتضي أن نقول بوضوح: ليس كل البنات كذلك، ولا كل الأولاد "ضحايا".. هناك نساء نقيات يرفضن فكرة البديل من أصلها، وهناك رجال يفعلون لعبة "الأساسي والاحتياطي" بلا اكتراث.. القضية ليست جنسًا، بل وعيًا وأخلاقًا وحدودًا، لكن لأننا نكتب من زاوية اجتماعية شائعة، نسمي الشيء باسمه للتحذير لا للوصم.
ما الذي يدفع إلى هذه اللعبة حقًّا؟
الخوف، من الوحدة، من الندم، من فوات الفرصة.
الجرح، من علاقات استخفت بنا، وكلماتٍ خانت، ووعودٍ سقطت.
والفوضى، الرقمية التي جعلت الوصول إلى الناس أسهل من الوصول إلى الذات.
وما الذي يوقفها؟
الوضوح.
أن ندخل علاقة بحدودٍ معلَنة: لا "احتياط" في الحب. لا نافذة خلفية مفتوحة. لا رسائل رمادية تبقي أبوابًا مواربة.
الصدق.
أن نقول "لا أستطيع الاستمرار" بدل أن نمسك بيدٍ ونلوح للأخرى.
الكرامة.
أن ترفضي أن تكوني بديلة، وأن ترفض أنت أن تكون خطة ب. من يقبلك نصف قبول سيتركك نصف إنسان.
إن كنتِ تقرئين هذا وتعرفين أنك تبقين شخصًا "على الرصيف" خوفًا من السقوط، فهذه دعوة شجاعة: اختاري. كوني عادلة. إما علاقة كاملة بعيوبها ومسؤولياتها، وإما قطيعة نظيفة تحفظ لكِ ولغيرك الكرامة. وإن كنتَ تقرأ وتخشى أن تكون "البديل"، راقِب الرايات الحمراء: علاقة لا تتقدم، اهتمام موسمي، ظهور واختفاء حسب المزاج، لغة "نحن أصدقاء الآن"… هذه ليست صدفة؛ هذه إدارة احتياط.
لسنا ملائكة، والخوف مفهوم، لكن تحويل الناس إلى خطط احتياط يترك في أرواحنا ندوبًا لا ترى. الحب الحقيقي ليس حيلة نجاة، بل عهد بين ناضجين يخطئون ويعتذرون ويختارون بعضهم كل يوم، لا حين تتعطل الخيارات الأخرى.
أعرف أن الواقع قاسٍ، وأن القلب الذي ذاق الانكسار يتعلم الحذر. لكن الحذر لا يعني "تأمين بديل"، بل "تأمين نفسك": علاج جراحك قبل أن تجرحي غيرك، بناء حياتك بحيث لا تكون العلاقة سد فراغ، تعلم قول "لا" بلا ذنب، و"نعم" بلا تلاعب.
فلنسأل أنفسنا بصراحة: هل نقبل أن يكون للحب دكة بدلاء؟
إذا قبلنا، خسرنا المعنى حتى لو كسبنا الخيارات.
وإذا رفضنا، سنخسر بعض الأوهام، لكننا سنربح أنفسنا.
لا تكن بديلاً.
ولا تصنَع بديلًا.
واجعل معيارك بسيطًا: من لا يراك "الأول والوحيد" لن يصير يومًا بيتًا لقلبك، ولو بدا العالم كله متاحًا بضغطة زر.

Trending Plus